من روائع الأدب الحضرمي القديم .. قراءة في أدب الإمام محمد بن أبي الحب

> «الأيام» علي عبدالله الصبيحي :

> جاء في كتاب تاريخ حضرموت أن بعض الأعيان الحضرميين زاروا الأكحل المنجوي صاحب ظفار حاملين له هدايا وتحفاً وكان قد صحبهم بعض الفقراء ولما علم أحدهم ما أهداه أولئك الأعيان جمع سبعة أعواد من الأراك وجعلها حزمة وقدمها إلى الملك الأكحل وأنشد أبياتا:

جعلت هديتي لكم سواكا

ولم أقصد به أحداً سواك

فقد أهديت عوداً من أراك

رجـاء أن أعود وأن أراك

فما كان من الملك الأكحل إلا أن أجازه وأكرمه بمثل ما أكرم أولئك الأعيان الحضرميين.

وهذا يدلنا على ما كان يتمتع به أبناء حضرموت من حس أدبي إن صح التعبير, وخلاصة القول وعلى حسب ما أجمعت عليه معظم الكتب عن تاريخ الأدب الحضرمي والأدب العربي في القرنين الخامس والسادس في أنحاء البلاد الناطقة بالضاد كافة، أنه كان إلى جانب كبير من الرواج والازدهار والحياة والانتعاش، إلا أنه لايوجد اليوم من الأدب الحضرمي من ذلك العصر إلا الشيء اليسير مما رواه أصحاب المناقب من الأماديح والمراثي وبعض المكاتبات الصوفية، ولا أحد يدري كما يقول أحد الباحثين هل فات الناقلين شيء مما يعتد به من الأدب الحضرمي في ذلك العصر, مما لاعلاقة له بالمناقب ومدائح الصالحين أم لا؟ وأضاف أنه ليس مما يحيله العقل أن يكون في ذلك العصر أدباء وشعراء اقتصرت مواهبهم على فن المديح فقط إلا أن الملاحظ أنهم لم يكونوا معدودين إلا من الفقهاء وأرباب الزهد والمتصوفة وحسب، لأن الأدب خالصاً في نظر البعض حينئذ مهنة لا تشرف صاحبها، إذاً فمن المحتمل أنه كان قد وجد بحضرموت أدباء لكنهم غير معدودين, إذ كان التفات هؤلاء الأسلاف واهتمامهم إنما هو بالدين والعبادة, فكانت الروح الدينية هي المسيطرة على رؤوسهم بحيث ملأتها ولم تبق بها فراغاً لشيء آخر, إلا أن من أمثل ما اشتهر وعرف من أدب في ذلك العصر, أدب الإمام محمد بن أبي الحُبّ فهذا الفقيه الأديب قد أنتج ما يصلح أن يكون مثالاً لمنتهى ما بلغ إليه الأدب الحضرمي في ذلك العصر من منظومه ومنثوره, والإمام محمد بن أحمد من آل أبي الحب ومنهم جماعة من العلماء والفضلاء وقيل إن جذورهم وأصولهم من ظفار ثم نزح بعضهم إلى تريم واستقروا فيها وأصبحت موطنهم الأصلي وهذا ما ذكره الشيخ علي بن أبي بكر في كتابه (البرقة). والأديب محمد بن أبي الحب لم يكن أديباً وشاعرا فحسب بل كان عالماً عاملاً وفقيهاً ورعاً ذا نباهة وشهرة علمية أكسبته المكانة السامية بين بني وطنه ورتبة مكينة لدى الملوك وذوي الشأن, فكان مسموع الكلمة مقبول الشفاعة مهيباً عند السلاطين يسعى بين الناس بالتوفيق وإصلاح ذات البين, وقد روى المؤرخون أن السلطان وضع مرة على حفائر العطب (القطن) بحضرموت ضريبة ولم يكن على العطب قبل ذلك ضريبة فكتب ابن أبي الحب إلى السلطان مستشفعاً لأصحاب العطب:

مساكين أهل العطب ورحمتنا لهم

فقار عجاف من صرير المعاجل

يريدون أهل العطب أن يلحقوا الغنى

وأيـن الثـريا من يـد المتـنـاول

فقبل السلطان شفاعته وترك ما أراد ولم يضع أحد من ولاة تريم على أهل العطب شيئاً بعد هذا. قال الشيخ الخطيب صاحب كتاب الجوهر وكل من أراد أن يجعل على الأعطاب شيئاً من الضريبة إعتاق بعوائق, إما أن يزول الوالي أو يصيب الأعطاب شيء من العاهات فيهلك, وذلك ببركة شفاعة الفقيه أنقذها الله به حياً وميتاً. وهناك نماذج من أدب هذا الإمام وله خطب, ومن أدعيته دعاء بر الوالدين المشهور لدى الحضرميين وله قصيدة في الثناء على تريم وله مرثية في الإمام سالم بن بصري العلوي المتوفى سنة 406هـ يقول في بدايتها:

أيا سالماً قلبي عليك محرق

فلا تعذلوني إن دمعي ذرف

إلى أن يقول:

لقد كان بدراً يستضاء بنوره

وبحراً من المعروف من زاره عرف

كذلك من ضمن أشعاره رسالة قدمها لسلطان تريم في ذلك العصر السلطان عبدالله بن راشد ويقول فيها:

أيا علم الأفضال والجود والكرم

وعلّامة الأداء والعلم والحكم

ويا عصمة الله الذي الناس ترتجي

له دولة يرعى بها الذئب والغنم

وبين أيدينا اليوم من أروع النثر الأدبي للإمام محمد بن أبي الحب وهي عبارة عن رسالة عزاء إلى الإمام الحافظ على بن محمد بن جديد العلوي في أخيه الشريف عبدالله الذي توفي بينما كان أخوه الإمام العلوي في مكة فبعث له برسالة العزاء في أخيه ويدعوه فيها للعود إلى تريم, وقد بدأها بالسلام وتأكيد ولائه للإمام العلوي, وأنه باق على عهده:«سلام على حضرة سيدنا الفقيه الأجل ورحمه الله وبركاته من أخ له مقيم على عهده مستقيم على وده لا يألو جهدا في المناصحة ولا يفصم عروة المصالحة, يقيم كتابه من مقام المصافحة وخطابه له مقام المناوحة, يلاحظ بعين أفكاره على بعد داره, ويخاطب بلسان تذكاره على شط قراره فهو كالمشاهدين بيديه وإن كان غائباً عن عينيه فيرجو بذلك نفع أخوته ورجاء بركته وشمول دعوته والانتظام في سلك أهل مودته في يوم الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا النتقين جعلها الله أخوة صالحة لمرضاته ومودة جامعة لطاعاته تُحمد إن شاء الله عاقبتها وتُجنى ثمرتها (وبعد)» ثم نرى ابن أبي الحب ينتقل إلى ذكر شيء من مناقب الإمام العلوي وبعض صفاته المحمودة الخصال فيقول:«أيها المعلم الذي يُهتدى بنوره والمعلم الذي يُقتدى بآثاره واللبيب الذي يُستضاء بآرائه والطبيب الذي يُستشفى بدوائه».

ثم نجد ابن أبي الحُب يذكر الإمام بحقيقة راسخة هي زوال الدنيا بما فيها الإنسان فيقول:«فقد علمت ما كتبه الله على العباد من الغناء وأنه لا يسلم مخلوق إلى البقاء وإنما البقاء لخالق الأشياء، ومدير القضاء» ثم نرى ابن أبي الحب ينتقل إلى مواساة الإمام بمصابه الجلل، فيقول:«فأحسن الله عزاءك على فراق الشيخ الأجل المبجل المجلل عبدالله بن محمد وجبر مصابك وعظم أجرك وثوابك وإني لمعزيك وإنا به المعزون على فقده والمصابون بوجده, ولقد ساءنا بُعده وأوحشنا فقده وعظم علينا وجده وأفل عنا سعده وإن فجيعتنا به أعظم من فجيعتك ولوعتنا به أشد من لوعتك وروعتنا لفراقه أهم من روعتك وكيف لا يكون وهو أليفنا في مكاننا وشريفنا في زماننا وهو أحد علمائنا».

والرسالة طويلة لايتسع المقام لسردها وحسبنا أن نشير إلى بعض منها. ثم يستأنف ابن أبي الحب الكلمات التي تبين مدى اشتياقه لرؤية الإمام ويحثه على العودة إلى تريم فيقول:«فانهض يا أبا الحسن لله خالصة تجزل بها مؤنتك وتعقب بها خيبتك واحتسبها عند الله من جملة حجاتك حجة مبرورة وزيارة مشكورة, ترجو بها صلة أهل معرفتك ما ترجو من الثواب في يوم عرفتك, وتدرك من البر بزيارة الأرحام والحرم ماتدرك من البر بزيارة تلك المشاهد والحرم، فإن وقوفك مع معشرك أفضل من وقوفك في مشعرك, وكيف لا يكون ذلك وأنت تجبر به قلوب أرحام منكسرة وتحيي به مسرة أيتام متحسرة, وتريش بها جناح أقارب مقصصة وتنهز به من صلة الأرحام أكبر فرصة فما يطفئ عنهم غليل المفقود إلا رمزية وجهك المسعود, وتكون هذه الزيارة تصل بها مواخيك وتذهب بها يتم بين أخيك, وتجبر بها عظمهم وتبرئ بها سقمهم, وتكون أباهم وأمهم, هذا مع أنهم والحمدلله ببركة مخلفهم ومستخلفهم ملحوظون بعين رعايتنا محفوظون بغوث ولايتنا ما ضرب اليتم عليهم رواقاً ولا أخضع فقد الأب لهم أعناقاً، فما جرى عليهم من اليتم إلا اسمه ولم يتعلق بهم وسمه ولا رسمه, وناهيك من حسن نظرنا لهم وملاحظتنا أحوالهم, إنا نستدعيك لزيارتهم ونستنهضك لعمارتهم اذ كان لا يمحو عنهم يتمهم إلا ملاحظة عمهم, وقد دعونا ومثلك من لباهم وأحيا برؤيته أباهم, وأن يعرف أن حقهم من آكد الحقوق وعقوقهم من أعظم العقوق والله تعالى يوفق سيدنا الفقيه الأجل لرشده, ويلهمه الصواب في قصده ويستعمله بإعمال البررة ويوفقنا وإياه لما فيه الخير» انتهى كلام الإمام رحمه الله.

وفي الأخير إن الناظر نظرة عميقة في رسالة ابن أبي الحب يلحظ أن الإمام ابن أبي الحب كان يمتلك أسلوباً عجيباً في القدرة على الإفصاح عن العواطف, ولديه ثروة كبيرة من الإشعاع البياني ناهيك عن دقة استخدام العبارة لتوصيل المعنى, ولو كان هناك من يثمن الأدب بثمنه لاتخذ هذا الأسلوب نموذجاً ومنهجاً يدرس. كما أننا نجد في رسائل ابن أبي الحب مانجده تقريباً عـنـد قراءة رسائل أمثال القاضي الـفـاضـل والـعماد الأصبهاني ورسائل الجاحظ أيضاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى