جناية على التلاميذ والشعر والوطن

> «الأيام» د.سعيد الجريري:

> وطن النجوم أنا هنا ** حدق أتذكر من أنا؟ أنا ذلك الطفل الذي*** دنياه كانت هاهنا

هذان بيتان يمهدان عتبة جمالية إلى فضاء الوطن، بنبرة هادئة، ليس فيها صخب ادعاء ولا اصطناع علاقة جوفاء في دوامات الخواء العاطفي، تصيب الوطن والقارئ معاً بصدع وطني حاد.

غام طيف هذين البيتين في ذاكرتي عندما قرأت في كتاب (لغتي العربية - ج1) للصف الثامن الابتدائي أبياتاً لأحد النعراء (بالنون وليس بالشين)، فالنعر: خلطة من النظم والشعر بحسب د. عبدالقادر باعيسى)، مضمونها - أو هكذا أراد لها صاحبها ولجنة التأليف المدرسي - هو حب الوطن.

وطني وهبتك باقتناع مهجتي

ودمي فدى ما عشت لا أتردد

هذا هو المطلع، وهو حماسي النبرة، مارشي الإيقاع، صاخب، يصلح نشيداً للجند في كراديس الانكشارية الذين قرأنا عنهم في كتب التاريخ، لكنه مفسد للذائقة الجمالية للتلاميذ منذ وقت مبكر، يتهافت منذ شطره الأول، وتقف كلمة (باقتناع) علامة على أن ما تقدمه لجنة التأليف على أنه شعر، هو نعر فقط، ولكنه يرسّب في قاع الذائقة الجمالية نفوراً من الشعر، لأن التلميذ سيجد صعوبة بعد ذلك في تلقي الأبيات الأخرى، لأسباب منها ضعف التركيب، وتزحُّر التوليف بين الألفاظ والدلالات، وشحوب التصوير، وفقر دم الإيحاء، وأخطاء النحو، وخلل الوزن.

للأخ الناعر أن يكتب ما يشاء، حيثما يشاء، لكن أن يدخل عقول تلاميذنا وخيالاتهم البريئة فيفسدها، ويفسد الوطن في أفئدتهم، فذاك مما يستفز، لكن العتب ليس عليه، إنه على لجنة التأليف التي لم تحسن الاختيار، فإن كان عن غير قصد فتلك مصيبة، وإن كان عن قصد فالمصيبة أعظم.

ولكن، من هو ذلك الناعر المحظي لدى لجنة التأليف الموقرة؟ أهو من الشعراء الذين نحتوا نصوصهم بإزميل الجمال والإبداع أم ممن اهتموا بالكتابة للأطفال والناشئة؟ إنه ليس من هؤلاء ولا من أولئك.. جاء في التعريف به حرفياً في الكتاب: (له ديوان شعر تحت الطبع، شاعر يمني معاصر تلقى تعليمه بمدينة جبلة، وانخرط في سلك الوظائف الحكومية في مجال التربية والتعاونيات، يمتاز شعره بالعاطفة الجياشة والبعد الإنساني، وله إسهامات في مجال الشعر والأدب هي في طريقها للنشر).

أذكر أننا درسنا في المطالعة التوجيهية في الإعدادية نصاً عنوانه (الوطن) للشاعر أحمد شوقي، وهو من النصوص التي كتبها للأطفال، مطلعه:

عصفورتان في الحجاز، حلتـا علــــى فنـن

في خامل من الريـــــاض، لا لد، ولا حسن

فألفينا فيه معنى الوطن الجميل، وذبنا شغفا به، في كل آن، لأننا كنا نستمتع بإيقاع النص، وسلاسته، وبساطته أيضاً، وأسلوبه الحكائي المحبب إلى نفوسنا حينئذ، وما فيه من حكمة قدمت إلينا بهدوء، بعيداً عن صخب قول صاحبنا (وطني وهبتك باقتناع....).

أخشى أن يظن ظانُّ ما أن هذه هي المثلبة الوحيدة في الكتب المدرسية، فإن الخوض في طبيعة تلك الكتب ومنهجية تأليفها وتربويته، في المقررات المختلفة، مما هو أحوج إلى ندوات وأوراق عمل جادة، أو مؤتمر وطني علمي صرف، وليس على طريقة (ورش لعمل من أجل المخصص!!) التي تجني على التعليم ومخرجاته!!

وأخشى أيضاً أن أذهب مذهب ناصر العتمي صاحب البوفيه، في رواية (بلاد بلا سماء) للزميل وجدي الأهدل، الذي يرى للتعليم - من واقع خبرته المباشرة في كلية العلوم- وظيفة أخرى، فأتساءل: هل تأليف الكتاب المدرسي للمرحلتين الأساسية والثانوية امتداد لوظيفة الجامعة التي حددها ناصر العتمي؟

تساؤلات تظل واقفة في الحلق، فهندسة عقول الناشئة أهم وأسبق، لكن الأولويات الراهنة ذات صلة بالكسب المادي، بدليل تعدد طبعات الكتاب من دون النظر في محتواه أو مراجعته في الطبعة الجديدة.

إن المحصلة النهائية هي إنتاج معرفة زائفة ووعي شانه، حد أن تجد بعض رؤساء الجامعات، مثلاً، يرى في العلوم الإنسانية عبئاً على جامعته، كأن جامعات فرنسا وبريطانيا وأمريكا واليابان، قد ألقت بالعلوم الإنسانية في مكب التاريخ، وهذا مثال فقط على أن ناصر العتمي قارئ جيد للرسالة، مثلما أن قائل (وهبتك باقتناع) متمدد في مناهجنا وبيوتنا وعقول التلاميذ من صعدة إلى المهرة، من دون أن يرف للجنة التأليف جفن خجل، وهي تعرّف به ذلك التعريف الذي يكفي وحده لمساءلتها عن جنايتها على الشعر والتلاميذ معاً.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى