الصحافة الورقية في طريقها إلى الزوال

> فاروق لقمان:

> عندما كنت أدرس الصحافة في جامعة كولومبيا في نيويورك، وجدت أن أماني معظم الطلبة والطالبات الذين كانوا مثلي يحضرون لنيل شهادة الماجستير تمحورت على الالتحاق بعد التخرج بجريدة «نيويورك تايمس» التي كانت ولا تزال أشهر يومية في العالم.

وفعلاً كانت إدارة الموارد البشرية في الجريدة تقوم بزيارة الكلية التي لا تزال الأولى من نوعها في الولايات المتحدة، وتلتقي بالطلبة بغرض اختيار الواعدين من الجنسين ومعرفة مدى استعدادهم للالتحاق بالجريدة عند التخرج، بل إن أحد مدرسي التغطية الإخبارية المعتادة كان من منسوبي الجريدة فعلاً وتكرم بالحضور مرتين أسبوعياً لتدريبنا على العمل بالضبط كما يفعل بزملائه الأصغر سناً في مبنى الجريدة العريق في «تايمس سكوير» المعروفة بالمدينة.

وكانت دهشتي بالغة لما وصلت إلى هناك وأنا أشاهد وأقرأ الأخبار المضيئة على مدى أربع وعشرين ساعة كما أتابعها حالياً على شريط أخبار الإنترنت الذي لا يكل في نقلها كل بضع ثواني، فلا جريدة تستطيع أن تحل محل الشريط ولا قناة فضائية قادرة على مد المشاهد والمشاهدة في بيتها كما يفعل الإنترنت بدون توقف.

ولما أزف موعد التدريب العملي لكل الزملاء قبيل التخرج كان من حسن حظي أن أحظى بفترة مراقبة ومتابعة في أروقة الجريدة التي صدرت عام 1851 وكان لديها عندئذ ثمانية ألف موظف بين محرر ومخبر ومصور وفني طباعة، وهو ما لم يكن متوفراً لأي جريدة أخرى في العالم.

وطبعاً كانت صحافتنا اليمنية أيامها لا تتجاوز غرفتين أو ثلاث وتطبع على آلات اخترعت قبل تاريخ تخرجي بمائة عام، ثم تغيرت الأحوال بسرعة بعد عودتي وانتقلنا إلى بعض أحدث أجهزة جمع الحروف وصناعة كليشهات الصور الإلكترونية، وكنا في طريقنا إلى توسيع قواعدنا التحريرية وإضافة مطابع حديثة لولا قرار الحكومة الجديدة بإغلاق صحفنا في اليوم الأول من الاستقلال المجيد.

عدت بذاكرتي إلى «نيويورك تايمس» بمناسبة الخبر المثير الذي أفاد أن المهاجر اللبناني المغترب في المكسيك السيد خليل سليم قد قدم لها مائتين وخمسين مليون دولار نقداً لإسعافها نظراً للخسائر الكبيرة التي تكبدتها أخيراً حتى تجاوزت المليار دولار بعد زمان كانت فيها الأولى في أمريكا توزيعاً وإعلاناً ومكانة واحتراماً حتى أضحت واجباً يومياً على أبرز المواطنين في البلاد، ولما كان الفاكس والإنترنت لا زالا في عالم الغيب كانت مواجز أخبارها تنتقل بين العواصم بالتلكس والتلغراف لأهميتها.

ربع مليار دولار بالنسبة للسيد خليل سليم مبلغ زهيد إذ أنه لا يؤثر كثيراً على ثروته البالغة ستين ملياراً متوزعة بين العقارات والاتصالات وعشرات الأنشطة الأخرى منها الطباعة التي بدأ بها والده السيد جوزف وأمه لندا الحلو في بدايات القرن الماضي عندما أصدرا أول جريدة في المكسيك ناطقة بالعربية التي كانت فألاً حسناً مهدت لهما ثم للأسرة طريق الرخاء.

ولعل الوالد لم يكن يخطر بباله ولو في أعماق أحلامه أن ولده سيصبح يوماً ما أحد كبار مالكي جريدة «نيويورك تايمس» العتيدة، لكن مساهمة السيد خليل سليم قد لا تفيد كثيراً في إطالة عمر الجريدة الكبيرة لأكثر من سبب منها أن الصحافة الورقية التي اعتدنا عليها باتت تواجه تحديات ضخمة تهددها بمتاعب جمة، بل أنها قد بدأت تخسر نسبة خطيرة من مجمل مداخيل إعلاناتها مع انخفاض في أرقام توزيعها.

ثانياً أن جريدة «وول ستريت جورنال» لصاحبها الملياردير روبرت مردوخ قد بدأت تؤثر عليها في عقر دارها - أي مدينة نيويورك وضواحيها.

ثالثاً أن توجه العديد من الناس نحو الإنترنت على حساب الصحافة الورقية أضر بها.

رابعاً أن الفضائيات الإخبارية قد قلصت عدد الناس الذين يفضلون الصحف اليومية بعد القضاء على مجلات الأخبار الأسبوعية التي أصبحت أو أنها ستصبح من مخلفات الماضي العريق.

وقد أشهرت إفلاسها شركة «تربيون» الأمريكية صاحبة ثالث أشهر جريدة يومية واسمها «لوس أنجليس تايمس» التي كانت ضرورة يومية في غرب الولايات المتحدة من قاعدتها في كاليفورنيا. والبقية تأتي..

وقد دفع ذلك كله الصحافة الورقية إلى محاولة يعتقد الكثيرون أنها يائسة للإبقاء على حياتها بالإعلان عن نفسها وصناعتها كما حدث منذ أسبوعين بالشعار القائل: «عدد الذين سيقرأون صحيفة اليوم يفوق عدد الذين تابعوا المباراة الكبرى مساء أمس». وكان ذلك عنوان حملة إعلانية على شكل صفحات كاملة في صحيفتي «واشنطن تايمس» و«نيويورك تايمس».

وتقول الوكالات «إن الحملة تسعى للترويج بأن الصحف لا تزال تحافظ على مكانتها المرموقة كوسيلة إعلامية أساسية في الولايات المتحدة سيما وأن هناك أكثر من مائة مليون أمريكي يطلعون عليها يومياً». وقد يكون ذلك صحيحاً لكن هل سيظل هذا الوضع لفترة طويلة في ظل التحولات الضخمة التي نشهدها.

ولنأخذ مثلاً أو أمثالاً من الصحافة الشرقية والعربية بالذات، باستثناء الهند والصين والبرازيل التي تشهد ازدهاراً صحفياً ورقياً لأسباب متفاوتة فإن الدول الأخرى ومنها العربية تعاني من قهر الأزمات المالية والمنافسة الإلكترونية.

ونعلم أن معظم الصحف العربية تعتمد على تمويلات حكومية وحزبية ومذهبية، لأن مبيعاتها وإعلاناتها لا تكاد تغطي مصاريفها ومن المحتمل جداً أن متاعبها المالية ستزداد تفاقماً خلال العقد الجاري مما قد يضطر بعضها على الأقل إلى الاستسلام والتوقف عن الصدور. أضف إلى ذلك تضاؤل مجالات حرية التعبير الحقة. الصين حالة استثنائية لأنها تخلو من الصحف المستقلة وحكومة الحزب الواحد تدفع كافة فواتيرها لضمان استمرارها في التطبيل والتزمير للنظام الوحيد. الهند لديها صحافة مستقلة بعشرات اللغات ويزداد عدد القادرين على القراءة يومياً كما أن الإنترنت لم يصل إلى مئات الملايين من المساكن لأن الكهرباء لم تمتد إليها بعد كما أن عشرات المواطنين يشتركون في قراءة كل نسخة من جرائد المدن والضواحي. البرازيل تتمتع بنهضة اقتصادية تقارب الطفرة وازدياد نسبة المقروئية ومساحات الإعلان على الأقل في الوقت الحاضر.

هل كل ذلك ينذر بانكماش مقروئية الصحافة الورقية في العقد أو العقود القادمة؟ الاحتمال وارد كما انقرض الفاكس وقبله التلكس ويكاد يتبعهما الهاتف الثابت والمجلات الإخبارية كما ذكرت وسيأتي قريباً دور المجلات الأخرى حتى وإن لجأت إلى أبعد حدود الإثارة كما كانت تفعل في أوروبا في الماضي إلى أن اختفت أو أنها في طريقها إلى الاختفاء بعد أن كانت بعضها تبيع أربعة ملايين نسخة يومياً أو أسبوعياً.

ألم تختف الآلة الكاتبة وقلم الحبر السائل وقبله القلم الرصاص ودفاتر المدارس وكتبها التي كنا نحملها بالكيلو ذهاباً وإياباً بين البيت والمدرسة؟!. اليوم أنتجت الهند جهاز كمبيوتر متكامل بعشرة دولارات فقط أي بألفي ريال يمني. من كان يتصور ذلك عام ألفين!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى