«الأيام» في وادي الفجرة همزة وصل الصبيحة الشرقية بالغربية .. حضور عريق في عمق الزمان والمكان ينهشه الظمأ وقسوة الصحراء والحرمان (4-4)

> «الأيام» علي الجبولي

>
اقتتال عنيف للنحل الباحث عن الماء يؤدي بحياة أعداد كبيرة من الجانبين وينهي خلايا بكاملها
اقتتال عنيف للنحل الباحث عن الماء يؤدي بحياة أعداد كبيرة من الجانبين وينهي خلايا بكاملها
في أقصى الجنوب الغربي من النطاق الإداري لمديرية طور الباحة محافظة لحج، وعلى بعد نحو25 كم من عاصمتها يمتد وادي الفجرة بتضاريسه المتميزة على التخوم الإدارية الشرقية لمديرية المضاربة وعلى مقربة من التخوم الجنوبية الشرقية لمديرية المقاطرة.

وانعدام أبسط مقومات الحياة والخدمات وغرابة المعاناة وإصرار أهالي وادي الفجرة على تحدي قسوة الحياة، كان الحافز الرئيس لارتحال «الأيام» إلى تلك المنطقة لاستطلاع ورصد معانات أبنائها وقد رصدنا لكم الآتي:

في عمق الصحراء مشاهد مؤلمة

على عمق نحو 15كم جنوبا في الصحراء يتوغل تبعثر سكاني يجزم من يراه للوهلة الأولى بأنه تجمع لاجئين حول مخيم الانروا، أجبرتهم حرب أو كارثة طبيعية على النزوح على حين غفلة من منظمات الإغاثة الإنسانية. لكن لا ذا ولا ذاك أجبرهم على النزوح إلى تلك البيئة القاسية، بل كارثة الفقر والبحث عن مرعى لمواشيهم ونحلهم.

ثمة جبلين متصلين في مشهد نادر تتحلق حولهما عشرات الأسر من رعاة الماشية والنحل في مشهد يشبه المعزب العربي القديم في كثبان وفيافي نجد والحجاز، أو كأنهم في ليل قارس يتدفؤون حول نار في صحراء، نصبوا لهم بيوتا حول ( امجبلين ) بطرق موغلة في البداوة لم يعد لها مثيلا في الكون، ما يشبه العشش لا تزيد مساحتها عن مترين، ولا ترتفع عن الأرض أكثر من مترين، نصبوها بطريقة يصعب التصديق أنها سكن بشر، يكومون أحجارا صغيرة بارتفاع نصف متر ثم يركزون عليها عيدان الأشجار بدلا من الأخشاب المعدومة، ويغطونها بالشجيرات وأغصان الأشجار، ليسكنها هؤلاء الرعاة وأطفالهم ونساؤهم.

بدء تصحر الأراضي
بدء تصحر الأراضي
لوحة تشبه لاجئين حول مخيم إغاثة ينتظرون صدقاته يتحلق هولاء النازحون حول( امجبلين ) في كثبان وسهول جدب إلا من شجيرات ومراع فقيرة لا تكاد تسد رمق ماشيتهم ونحلهم، يبرز مثل هذا التشتت في أكثر من موضع في صحراء مترامية لا تنتهي إلا على الأطراف الشمالية لمحافظة عدن. في هذا الصحراء لا يوجد ماء إطلاقا، لكنهم يجلبونه من مناطق بعيدة جدا، إما على ظهور النوق والحمير، أو على السيارات داخل دبات بلاستيكية زرقاء لم يسألوا كانت صالحة لحفظ ماء الشرب، أم لها أخطار قاتلة.

عزاؤهم أنهم يملكون ثروة حيوانية من الإبل والأغنام والماعز والأبقار والحمير والنحل فرضت عليهم مكابدة هذا الشظف لستر الحال من ذل الحاجة.

أثناء تجوالنا في تلك الصحراء قفز إلى ذهني عنوان تحقيق صحفي قرأته في «الأيام» للزميل أنيس منصور (حياة بدائية قاسية ومشاهد تدمي القلوب)، عن الحياة البدائية لسكان الشريط الساحلي بمديرية المضاربة الذين لا يختلف واقع معيشتهم عن معيشة هؤلاء النازحين. روى لنا حسن صالح رجوح أحد المنفيين في تلك الصحراء شيئا من المتاعب: «لا يوجد ماء في هذا الخبت، من معه سيارة من الرعيان يجلب الماء من معبق في المقاطرة على بعد 35كم، أو من بئر امرجاع على بعد 30كم، ويباع لنا البرميل بألف ريال. أما أغلب الرعيان يجلبون الماء من بئر الفجرة فوق ظهور الحمير والإبل ولمسافة تصل إلى 15 كم تقطع ذهابا وإيابا بأكثر من عشر ساعات في هذه الرمال.

عبر صحيفة «الأيام» أناشد كل من لديه رحمة من أهل الخير والمنظمات الإنسانية أن يساعدونا بحفر بئر لشرب الناس والمواشي والنحل».

مشاهد البؤس تصفع من يتجول في فيافي الصحراء نهارا وسط المراعي ـ رغم ندرتها ـ وتنوع الماشية التي يعتصرها الظمأ، حياة بداوة جافة كجفاف المكان، أجساد نحيلة يابسة أمضها الجوع والتعب والظمأ، شوهتها حرارة الشمس، وعفرتها رياح الصحراء، يحس أنه خارج نطاق الزمان، يستحضر روايات التاريخ عن صحاري نجد وكندة ومرابع بكر بن وائل، ويوميات الملك الضليل (امرؤ القيس) وملاحم حروبه طلبا لثار أخيه كليب، عدا سيارات متهالكة يغيب تماما أي أثر للعصر، وينعدم أي وجود للدولة والمنظمات الإنسانية والخيرية. الحديث عن خدمات صحية أو تعليم في صحراء بلا ماء شرب أو أبسط مقومات الحياة يصبح ضربا من الترف الفائض حتى أبسط الصدقات التي تسميها الدولة رعاية لا تصل.

عشش  لبعض الأهالي
عشش لبعض الأهالي
يقول حسن رجوح: «سمعنا عن إعانات الضمان الاجتماعي تعطى للفقراء في بعض المناطق لم يأت أحد إلى عندنا في هذا الخبث.سمعنا أنهم يبيعون الحالات لمن معه فلوس ونحن بلا فلوس في هذا الوقت».

الظمأ يفتك بالنحل

أثناء جولتنا في صحراء(امجبلين) شد انتباهنا تناثر أعداد كبيرة من النحل الميت أمام رصات خلايا النحل، سألت مرافقنا عبدالله علوان عن سبب نفوق النحل بهذه الأعداد الكبيرة. وبلغة الخبير المجرب قال: «بسبب الظمأ ، حينما يتأخر وصول الماء إليها ولو ليوم واحد تجف أوعية السقي فيدفع بها الظمأ إلى البحث عن الماء في داخل خلايا النحل الجيران، وفي أي موقع كان وإلى أينما تستطيع الوصول، لكن سكان هذه الخلايا من النحل تتصدى للنحل القادم إلى خلاياه بحثا عن الماء، فيحدث اقتتال عنيف يؤدي بحياة أعداد كبيرة من الجانبين وينهي خلايا بكاملها».

متاعب على بساط القلب

على ضفتي الوادي وفي أحضان المرتفعات والتلال وحواف الشعاب وفي الصحراء المتصلة بالوادي يتوزع سكان وادي الفجرة، في عشر قرى صغيرة وتناثرات مبعثرة تبدأ من مدخل الوادي وحتى نهايته.

الجبل من خلفهم والصحراء من أمامهم والظمأ يعربد بينهم.. منطقة خارجة عن نطاق الزمن، الأمية تتوارث بين الجنسين وإن أجاد القراءة والكتابة قلة جدا من الرجال، أما النساء فأجزم بأنه لا توجد امرأة واحدة تحررت من الأمية، فقر وأوضاع مياه مؤلمة، كـأن الدولة غير معنية بحياة هؤلاء المتعبين.

الظمأ كارثة مؤلمة وافتقار المنطقة لأبسط وحدة صحية، ولو لرعاية الأم الحامل والطفولة والإسعافات الأولية.. حرمان يصعب وصفه، أبرز ضحاياه الأطفال والنساء. فهم المعنيون أولا بالبحث عن ماء الشرب في صحراء غير ذات ماء هي ليست الوحيدة في الصبيحة، وهم المحرومون من التعليم والصحة. عن أبرز معانات أهالي الفجرة يصف عبدالله علوان مصدر عيش السكان:«أبناء المنطقة فقراء جداً ومستور الحال من لدية مواشي أو نحل، وبعضهم لديه أراض تزرع على الأمطار. عدد قليل جداً من أبناء المنطقة يحصلون على رواتب من المؤسسة العسكرية التي عملوا فيها من سابق، قلة يحصلون على إعانات، والأشد فقرا يبيعون الحطب،غير ذلك معيشة الناس قاسية كما تظهر أمامكم. معاناة الناس مؤلمة ليس من الفقر فقط، ولكن من شحة ماء الشرب، وغياب أبسط رعاية صحية».

أما دائخ أحمد علي الطالب الوحيد الذي يوشك أن يكمل الجامعة ( المستوى الرابع بكالوريوس لغة عربية كلية التربية. فيقول : «جزيل الشكر والتقدير لـ«الأيام» التي وصلت إلى منطقتنا لتلمس همومنا ومتاعبنا. الفقر والحرمان عنوان لهذه المنطقة، غالبية أبناؤها رعاة وعدد قليل في المؤسسة العسكرية ومعلمين اثنين فقط ولا يوجد موظف غيرهما في القطاع العام. الحالات الاجتماعية لا تصل إلا نادراً، والمرة الأخير جاءوا بحالات الرعاية وباعوها لمن يستطيع الشراء.الطريق خربت أراضي المزارعين، المقاول أوقف العمل ولم يرجع».

بقرة تبحث عن الماء
بقرة تبحث عن الماء
في الفجرة مشروع مياه استراتيجي وأدته التحليلات

قبل تحقيق الوحدة بأعوام بدأت الدراسات لإنشاء مشروع مياه استراتيجي 30كم جنوب مدينة طور الباحة، تحديدا في وادي الفجرة لتغذية مديرية طور الباحة بكاملها وبعض مناطق جنوب وشرق المضاربة. هذا المشروع جاء بناء على دراسات جيولوجية قديمة أشارت إلى غنى وادي الفجرة بكميات كبيرة من المياه. وفي 93م بدأ العمل في المشروع بحفر 7 آبار ارتوازية، وبعد إهدار مبالغ ضخمة عثر على المياه بالكميات المطلوبة، أو هكذا قيل حينذاك. فجأة توقف المشروع لخمس سنوات متتالية دونما سبب.

وحينما أخذ نضوب المياه يطل في طور الباحة استؤنف العمل في المشروع. حفرت بئران إضافيتان، فأصبح الحقل 9 آبار تفاوتت أعماق آباره ما بين 22ـ215مترا. ومرة أخرى توقف العمل لخمس سنوات أخر. تركت معظم الآبار مفتوحة طيلة 12 عاما يبرح منها أبناء المنطقة ماء الشرب. تساقطت الدلاء والأحجار والأشجار والتراب داخل الآبار وتعرضت للردم.

وفي 2004م قام فريق من الفنيين والمهندسين من مؤسسة مياه عدن بالضخ التجريبي لمعرفة استقرار المياه وعمقها، فتناقضت النتائج والخلاصات من تقرير إلى آخر حول كميات المياه وصلاحيتها، بينما أفاد أحد التقارير بارتفاع نسبة عناصر الكالسيوم والمغنسيوم والفوسفات والكبريتيد ... إلخ في الماء.وأشار آخر إلى أن «أهالي المنطقة يعتمدون على آبار قديمة مكشوفة مجاورة للحقل وهي مياه من نفس الطبقة الحاملة للماء»، وأفاد بصلاحية استخدام المياه للأغراض المنزلية (طبخ، غسل، شرب الحيوان ) .

كلية التربية طور الباحة أدلت بدلوها، عرضت عينات من أربع آبار على مختبرين مختصين في عدن، وعلى ضوء نتائج الفحص أكد تقرير أعده د. أحمد المجرشي «أكدت نتائج فحص المختبر وجود عنصر (EC ) في ثلاث آبار بمقدار مرتفع. أما البئر الرابعة فالمياه صالحة للشرب، وأفضل من مياه عدن».ومن يوم ذاك توقف كل حديث عن المشروع. فقد وأدته التقارير دون حجج مقنعة أو تحليلات علمية قاطعة، بل آراء مثيرة للشك والريبة، وهو ما لم يقتنع به أبناء المنطقة، بعد أن أمسى الظمأ يهدد بقاءهم، ويجبرهم على شرب مياه مكوناتها أخطر من مكونات حقل الفجرة وأكثر منها تلوثا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى