النظرة «القانونية» عند السلطة السياسية.. أهدي مقالي هذا إلى كل قاض يمني .. (2-1)

> علي هيثم الغريب:

> نحن في اليمن شماله وجنوبه شعب ذاق الظلم وتعطش للحرية وضحى من أجل المبادئ السامية.. وكم كان الأحرار بحاجة إلى قضاء عادل.. وإذا سألنا التاريخ عن القضاء، واقتفينا أثر المتهمين السياسيين سنجد أن القضاء لم ينصف أحدا منهم، لا قبل الثورة ولا بعدها، لا في ظل الجمهورية ولا في سنوات الوحدة.

إلا من رحمته السلطة التنفيذية.. ولكن إذا رحلنا عبر التاريخ اليمني وتأملنا منحنياته سنقف عند محطات كثيرة خالدة تزدان بها صفحات تاريخنا المجيد، خطها أولئك الذين قالوا كلمة الحق أمام القضاء وخارجه وهم يعرفون مصيرهم المحتوم.. وساد الظن - وبعضه إثم- بأننا طرقنا باب القضاء العادل، وهو ما كان يعني أن التعاليم الإسلامية السمحاء والمبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية وحرية الكلام والتعبير والصحافة والتعددية السياسية والحزبية والنقابية قد أزاحت الاستبداد والسجون السياسية إلى غير رجعة.. وأن القضاء قد أزاح التبعية لأجهزة الدولة، أو ألزمها موقف الدفاع، وأن القضاء المستقل قد نكس أعلام القضاء التبعي.. لكن نقول - والأسى يملأ قلوبنا - إن كل شيء أصبح هابطا إلى السفح، والقضاء جزء من هذا الهبوط.. وحتى الآن لا تعرف السلطة أن لا قيمة لها من دون قضاء مستقل، وأنها لا تساوي شيئاً إلا بقضاء مستقل عنها.. فإن لم تجد السبيل إليه، فقد ضاع تاريخها هباءً.. والكل في صنعاء وعدن يتذكر أحكام محكمة شارع جمال ومحكمة صيرة في القرن الماضي.. وكيف كان يجري ذلك وسط صيحات عالية من الاعتراض الصامت والاستنكار.. كل ذلك يجري ودستورنا يُجمل حقوق المواطن اليمني منذ أكثر من أربعين عاماً، في أن لكل مواطن الحق في حرية التعبير والمساواة، والحق في الحياة، وفي سلامة شخصه من التعذيب والسجون والمعاملة القاسية، وحقوق العمل والتعليم والصحة ومستوى من المعيشة كاف للمحافظة على الصحة له ولأسرته.. وحقوقه في موقفه أمام السلطة القضائية (متهماً سياسياً أوعادياً أو صاحب دعوى أو مسؤولاً عن التزامات أو مطالباً بحقوق). ولأن الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات (المادة (3) من الدستور).. إذاً فقد أرسى الإسلام- منذ أربعة عشر قرناً- حقوقاً للإنسان، وذلك في احترام اجتهاده وكرامته اللذين حباهما الله إياه، واللذين يتفقان مع كونه خليفة الله في الأرض.. بل أن الإسلام اعتبر الحقوق «واجبات» لايصح التنازل عنها، بل أنها واجبة عليه أيضاً، لتصح مهام خلافته.. ومن هنا تتأتى لها حماية لا تتوافر في نظريات الغرب عن حقوق الإنسان.. ففي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة بيته المحرم» (متفق عليه). إن حقوق الإنسان أمام القاضي في الإسلام عظيمة وجليلة.. ولكن كما تشوه القضاء تشوهت العدالة نفسها في اليمن.

إن العدل من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته سبحانه وتعالى.. والعدل في الإسلام أمر شامل يستوي فيه الأبيض والأسود والذكر والأنثى، المسلم وغير المسلم.. يقول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل).

وكنت أتمنى أن آتي بمثال أو نموذج من الأحكام التي طالت بعض السياسيين طوال نصف قرن من عمر الثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية، أو حتى وجود محاكمة عادلة ولكني لم أجد.. وليسمح لي القارئ أن أعطيه مثالا أو نموذجا لعدالة القضاء في بلد أفريقي متخلف جداً وكانت تمارس فيه العنصرية بشكل فتاك، ولكن القضاء هناك هو القضاء.. فأثناء محاكمة نيلسون مانديلا الأولى ورفاقه من قبل نظام الأبارثيد في جنوب أفريقيا، قال مانديلا: «اعتقلت من دون أمر اعتقال رسمي ولم تتح لي فرصة استدعاء محامٍ ورفضت الشرطة إخبار أهلي بمكان اعتقالي». كان اعتقال مانديلا ورفاقه في أعقاب مذبحة شاربفيل وإعلان حالة الطوارئ في البلاد. أضاف مانديلا: «رغم موقف النظام منا فقد طليت الزنزانات وزودونا ببطانيات نظيفة وأوعية للنفايات. كما سمح بالخروج خارج الزنزانات غالبية النهار، وخصصت للمتهمين في قضية الخيانة العظمة زنزانة أكبر للمداولات والمشاورات وسمح لنا بالاحتفاظ فيها بكتب ومراجع قانونية». وقفت عند هذه الفقرة وتذكرت طريقة اعتقالنا ليلة 31 مارس 2008م ونقلنا إلى سجن الأمن السياسي في صنعاء مع أنه لا يوجد في بلدنا نظام عنصري ولا أبارثيد ولا حالة طوارئ.. ففي الثانية عشرة منتصف ليل 31 مارس استيقظت على طرقات قوية وغريبة على باب منزلي لم يساورني شك في أنها طرقات رجال الأمن وليس الشرطة. وهي الطرقات الأمنية نفسها التي أتتني في الوقت نفسه والتاريخ نفسه 31 مارس عام 1998م ذهبت لأفتح الباب فقابلني تقريبا عشرون فردا بأسلحتهم والكلبشات. سألتهم عن أمر الاعتقال فقال أحدهم: موجود فوضع الكلبشات في يدي ولم يكن هناك مجال للحديث مع قوة عسكرية كهذه.. وصلنا إلى سجن الفتح بعد عشر دقائق وكنت أعرف المكان جيداً لأنني كنت فيه في الاعتقال الأول.. توالى وصول المعتقلين حتى الصباح وبلغ عددنا ستة أفراد اعتقلوا بالطريقة نفسها التي اعتقلت بها. عند السابعة صباحاً أخذونا إلى مطار بدر وبعد الظهر وصلنا سجن الأمن السياسي في صنعاء.. ووضعونا في زنزانات انفرادية تحت الأرض، وعاملونا معاملة ما أنزل الله بها من سلطان، وعرفنا أنه من المستحيل أن تطالب بحقوقك القانونية والدستورية في ظل نظام مكبل بالحقد والانتقام البغيض ضدنا. لم ترضخ سلطات السجن لأي مطلب من مطالبنا القانونية. ولم يسمح لنا أن نقابل حتى أطفالنا إلا من وراء حاجزين متباعدين.. وعرفنا جيداً أن معاملتنا بتلك القسوة هي تعبير عن موقف السلطة نفسها تجاه تلك القضايا التي نحملها في الجنوب.

قال مانديلا: «سُمح لي بميزة واحدة أثناء الاعتقال والمحاكمة وهي زيارة جوهانسبرغ في عطلة الأسبوع، ولكن ليس لقضاء إجازة وإنما للعمل. وأثناء وجودي في المكتب سمح لي بالنزول أحياناً إلى المقهى المجاور لشراء بعض المأكولات، كما غض الطرف عن زيارة ويني - زوجته - لي في المكتب». هذه الفقرة ذكرتني برئيس النيابة المتخصصة عندما طلبت منه أن أتصل بوالدتي العجوز (90 عاماً) فرفض رفضاً قاطعاً وقال: «حتى لا تنقل لك معلومات». شعرت بغصة في حلقي من هذا الرد. وحتى لا أتسبب بمشكلة أخرى اكتفيت بهز رأسي. وفي السجن أصبح اللقاء أو حتى الزيارة بيننا- كمتهمين- والمحامين شبه مستحيلة.. كانوا أحياناً يأتون إلى السجن ليقال لهم ممنوع الالتقاء بنا. كانت الكراهية لنا متعمقة في نفوس السلطات مما جعلها لا تفرق بين المتهم ومحامي الدفاع.

بعد خمسة أيام من التحقيقات الأمنية الليلية ذهبنا إلى النيابة المتخصصة (نيابة أمن الدولة) وأدخلوني مكتب النيابة معصوب العينين والكلبشات على يدي.. وهذا مخالف لأبسط القوانين في حقوق الإنسان. وفي الجلسة الأولى دافعت عن نفسي بنفسي.. وفي ظل الجو المتوتر في النيابة استنتجت أن السلطة ربما قد قررت تهما وأحكاما قاسية في ظل الأوضاع السائدة في الجنوب.

قال مانديلا: «تدارسنا الأمر فيما بيننا - يقصد السجناء - وسمح لكل فرد منا- عددهم تسعة وعشرون جميعهم متهمون بالخيانة العظمى- أن يعبر عن وجهة نظره وخرجنا بقرار جماعي بشأن موقفنا من المحاكمة». بعد قراءتي هذه الفقرة تذكرت حياة السجن الانفرادي والحياة القاسية التي ظلت كما هي عليه رغم مطالبنا القانونية أمام النيابة والقضاء، ولاحياة في من تنادي. وأصبنا بنكسة من تعامل النيابة معنا وعرفنا أن لا قانون نحتكم إليه إلا قانون الاذلال، وأن هناك مصاعب كبيرة ستواجهنا أمام القضاء. فقضيتنا ليست مجرد قضية بين من نهبوا أرضنا وثروتنا وتاريخنا ومجموعة من المتهمين بالانفصالية (ونحن الوحدويون الحقيقيون)، بل هي اختبار لمبدأ أخلاقي مقابل مبدأ غير أخلاقي.. نعم إننا كنا نواجه مشكلة هي أكبر من مجرد مواد قانونية. فلم يسمح لنا نحن المتهمين أن نلتقي ولو لمرة واحدة، لا لكي نتشاور بل لنرد السلام على بعضنا البعض.. وعشنا خمسة أشهر متتالية في زنازين انفرادية تحت الأرض نأكل كدماً صباحاً ومساءً ورزا أبيض غداءً.

كانت السلطات مصرة على أن تظهرنا أمام الرأي العام الشمالي بمظهر الانفصاليين الخطرين الذين يقطرون عنفاً وكراهية وفتنة.

عندما سألني المحقق بعد نقلنا إلى النيابة - وهذا مخالف للقانون- عن رأيي بالوحدة والثوابت الوطنية؟.. قلت له إن القضية ليست قضية شكل وإنما هي قضية مضمون، فالوحدة لا يمكن أن تتحقق من قبل طرف على حساب طرف آخر.. ففي الجنوب اليوم يوجد نظام لا مثيل له في الاستبداد والطغيان. وأبناء الجنوب هناك على استعداد لتحمل أقسى أنواع المعاناة في سبيل التخلص من الطغيان.

بعد عشرين يوماً سلمت الدولة النيابة العامة المتخصصة أفظع وأقسى الاتهامات ضدنا. وفي 28 مايو 2008م عقدت محكمة أمن الدولة العليا أولى جلساتها ولم يغب أحد من المطلوبين إلا القانون.. تجمع أمام المحكمة وداخلها حشد كبير من الصحفيين والقنوات الفضائية المحلية والعربية والدولية لم تشهده قضية بهذه التغطية الإعلامية.. ونحن داخل قفص الاتهام الحديدي انبهرنا بهذا الكم الكبير من الإعلام.. وعرفنا جيداً أن قضيتنا هي قضية شعب ووطن وصلت ونحن داخل السجن إلى ما وصلت إليه من حدة. كان الجمهور والمحامون يتدافعون من أجل الدخول إلى قاعة المحكمة على الرغم من التعزيزات الأمنية الواسعة.. ومئات لم يتمكنوا من الدخول.. دخلت هيئة المحكمة وافتتحت الجلسة ونحن مغطون بكاميرات الإعلاميين.. لم نر هيئة المحكمة ولم نسمع افتتاح الجلسة من الحشد الهائل للإعلاميين والقنوات الفضائية.

بدأت النيابة بقراءة صحيفة الاتهام، أهم ماجاء فيها:«بأنهم - المتهمين - وخلال الفترة من 2006م وحتى 2008/3/31م ارتكبوا أفعالاً إجرامية بقصد المساس بالوحدة الوطنية وتعطيل الدستور وإثارة العصيان المسلح لدى الناس ضد السلطات القائمة بموجب الدستور».. وأشار قرار الاتهام إلى «أن المتهمين حرضوا على النعرات الطائفية وبث روح الفرقة وإثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد، وهو ما ترتب عليه مقتل وإصابة عدد من المواطنين ورجال السلطات العامة، ونهب وإتلاف ممتلكات عامة وخاصة وقطع الطرقات وإلحاق الضرر بالمصلحة العامة، وتعريض سلامة وأمن المجتمع للخطر». وطالبت النيابة بإعدام المتهمين مستشهدة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتاكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم فاقتلوه».

اندهش الجميع بهذه التهم الجائرة والكاذبة. أما نحن فكنا نعلم علم اليقين أن الدولة لم تكن لديها أية أدلة ضدنا.

هذا الاتهام جرنا إلى موقف القاضي الذي كان يحاكم نيسلون مانديلا عندما قال لرئيس النيابة: «ألا تعترف ياسيد يوتار بأنك أخفقت في تقديم الأدلة على أن المتهمين اتخذوا قراراً بشأن حرب العصابات، أليس كذلك؟». حاول يوتار أن يقنع المحكمة أن الحزب اتخذ استعداداً للقيام بحرب عصابات، فرد عليه القاضي:«أجل، أعرف ذلك، ولكن المتهمين يقولون إنهم لم يتخذوا قراراً للشروع في حرب العصابات. فهل أفهم من كلامك أنك لا تملك دليلاً ينقض ذلك القول؟ أما أدلتك هذه فهي ضعيفة». وفي الجلسة التالية استعرض القاضي ما توصلت إليه هيئة المحكمة من نتائج ملخصها «أن المتهمين كانوا فعلاً يدبرون لتغيير النظام الحاكم بنظام يختلف اختلافاً جذرياً شكلاً ومضموناً، وأنه استعمل وسائل احتجاج غير قانونية أثناء حملة التحدي، وأن المتهمين دعوا في خطاباتهم إلى العنف.. ولكن بناءً على الأدلة التي قدمت إلى هذه المحكمة وما حصلنا عليه من حقائق فإن من المستحيل على هيئة المحكمة أن تحكم بأن المتهمين انتهجوا أو وضعوا سياسة للإطاحة بالحكومة بالقوة، أي بمعنى إعداد الجماهير أو توجيهها لارتكاب أعمال عنف ضد الدولة». وأضافت هيئة المحكمة «أن الادعاء لم يقدم أدلة كافية وعليه فقد حكمت المحكمة ببراءة المتهمين وهم أحرار طلقاء». ويقال إن جنوب أفريقيا اهتزت بالتصفيق والهتاف، وخرج المتهمون كلٌ يبحث عن أسرته وأقاربه وأصدقائه. ولكن القاضي الأبيض خرج من الباب الخلفي رافع الرأس وهو يعرف أن الدولة التي أخفقت إخفاقاً ذريعاً في تحقيق هدفها في محاكمة جندت لها عشرات المحامين والمستشارين القانونيين، واستهلكت آلاف الوثائق وأكداساً من الأقوال والأدلة. فكان الحكم محرجاً بالنسبة للحكومة على الصعيدين الداخلي والخارجي. وقد علق مانديلا على هذا الحكم: «لم يكن الحكم تأكيداً لعدالة القضاء في جنوب أفريقيا، ولكنه جاء في المقام الأول نتيجة لما تمتع به أعضاء هيئة المحكمة من إنصاف».

وهذه الفقرة ذكرتنا بطلباتنا أمام القاضي في صنعاء في الجلسة الأولى (28 مايو2008م) التي انحصرت في مطلب واحد هو: إخراجنا أولاً من تحت الأرض!.. لم يتردد القاضي في قراره بإخراجنا من تحت الأرض إلى مكان مناسب.. ولكن الظاهر أن هذا القرار أوجد خصومة بينه وبين النيابة، وكراهية نشأت ضده من الحكومة والحزب الحاكم. وأذكر أنه عندما فتح الجندي «الغماية» من على عينيّ فجأة رأيت رئيس النيابة نفسه الذي حقق معي في عدن 1998م، فقلت له: مازلت تلاحقني؟ فرد علي: أنت الذي لحقتني إلى صنعاء؟!.. وانتابني شعور بأن التهمة ستكبر ولكنها ستكون من دون جذور.. فالمرء يجد نفسه أحياناً عاجزاً عن إنقاذ ماحكم عليه مسبقاً، ووجدت أنه لا أمل. فرفضت الإدلاء بأي شيء إلا بوجود محام.. وقلت له: إذا لم تصلح الحكومة سياساتها تجاه الجنوب فإن جيل المناضلين الذي سيأتي من بعدنا سوف يجعلها تحن إلينا. وهذه هي الحقيقة فقد رأيت ومعي أخي أحمد عمر بن فريد خلال حضور أحد الاعتصامات زعلا من بعض الكلمات التي قلناها في المهرجان، ورأينا في أولئك الشباب روح التحدي الغاضبة وعرفنا أن هناك جيلاً جديداً من الشباب الغاضب المفعم بروح الرفض.. فإذا تمادت السلطات فإنهم حتماً سيغيرون طبيعة النضال بالكامل.. فقد استفز أولئك الشباب ما رأوه من أوضاع متردية ولم يجدوا مبرراً لقبول اعتقالات ومحاكمة إخوا نهم وآبائهم.. وأين: في صنعاء، وأين: في سجون الأمن السياسي ومحكمة أمن الدولة، ولماذا: لأنهم رفضوا نهب الجنوب.

منذ اليوم الأول للمحاكمة، أي في 28 مايو 2008م (وبعد ستة أيام من الاحتفالات بالذكرى الـ 18 لإعلان الوحدة بين الشمال والجنوب) استطاعت الأوساط السياسية والاجتماعية الخارجية وحتى اليمنية أن ترى هوة حقيقية بين الجهود الحاذقة للحكومة الرامية إلى الظهور بمظهر دولة الوحدة «على النمط الألماني» وبين واقع الانتهاكات المستمرة الفظة لأبناء الجنوب. لقد كانت محاكمتنا في صنعاء مخزية للنظام. وسمعنا كيف تعالت صرخات الاحتجاجات من المراسلين والمراقبين، وشهدنا مشهداً مثيراً وتأثرنا نحن - أي المتهمين- عندما دخلت قيادة الحزب الاشتراكي بالكامل وعلى رأسهم المناضل عزيز النفس علي صالح عباد مقبل والدكتور ياسين سعيد نعمان.. وعبر الحاضرون عن تأييدهم لنا بالهتاف والاستنكار.. ودهش الجميع لتدفق المتطوعين من معظم المحافظات للدفاع عنا، حيث في بعض الجلسات لم يبق كرسي واحد شاغر للآخرين. واستخدم رجال الأمن الصلاحيات كافة لمنع الناس من الدخول إلى القاعة الضيقة أصلاً استناداً إلى الأوامر وليس إلى القانون. ومحاولات المنع هذه لم تكن سوى محاولة مقنعة بصورة سيئة لإجراء محاكمة وراء أبواب شبه مغلقة.. ولكن العالم استمع جيداً أثناء هذه المحاكمة إلى الكثير عن القضية الجنوبية وعن المظالم، التي نقلها الإعلام المحلي والعربي والدولي في جلسة واحدة فقط، وتم منع ممثلي الصحافة والإعلام من حضور بقية الجلسات ومن النشر حول هذه القضية.

إن مهمة هذا المقال هي نقل الصورة عن نظام عنصري (الأبارثيد في جنوب أفريقيا سابقاً) وكيف كان يحترم الدستور والقانون هناك، وبين نظام يدعي الوحدة والديمقراطية ويمارس مخالفات واضحة للدستور والقوانين الأخرى. فالوسائل التي لجأت إليها الحكومة (الاعتقالات والسجن والمحاكمة) مخالفة للقانون.. ومادامت النيابة قد غيرت التهم الموجهة ضدنا مرات عدة رغم عدم وجود أدلة دامغة ضدنا، فما الذي كان يمنع القضاء من إصدار أحكام؟!.

ختاما نقول: بينما كنا نحن أمام القضاء نطالب بإخراجنا من الزنازين الانفرادية ومن تحت الأرض إلى فوق الأرض يمكن أن أنقل جملة قالها مانديلا وهو يعيش في بلد عكس نظامه أسوأ المعاملات العنصرية في العالم، حيث كان مانديلا يدرس القانون وهو رجل قانون ومحام وكاتب واجتاز الامتحانات بنجاح:«واصلت الدراسة طول فترة المحاكمة واجتزت الامتحانات بنجاح». أما نحن فقد كنا نطالب بصحيفة نقرؤها وليس الدراسة الجامعية.

في 12 رمضان 1429هـ أصدر فخامة الأخ الرئيس العفو العام عن جميع سجناء القضية الجنوبية في صنعاء.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى