عُقم الأساليب الديمقراطية الغربية في الحكم اليمني

> أمذيب صالح أحمد:

> عندما يتجاوز أي مجتمع إنساني تراثه العقائدي وأخلاقه وأعرافه وتقاليده الأصيلة التي تصلح للتطوير والبناء عليها سياسياً واقتصادياً وثقافياً فإن النتيجة الحتمية لذلك التجاوز هو الاختلال والاضطراب والخيبة.

والدول العربية منذ سقوط الدولة العثمانية في أوائل القرن العشرين تعرضت هويتها الإسلامية والعربية لعواصف المسخ والتغريب الأوروبي من القوى الاستعمارية الخارجية ومن قوى العداء الداخلي للإسلام والعروبة فطبقت منها النظُم والأساليب الأوروبية في الحكم والقضاء والإدارة، كما تغلغلت قيم الثقافة الغربية في الحياة الاجتماعية لأوطان العرب وفي نفس الوقت رافق ذلك احتقار وإهمال لتراث الحضارة الإسلامية وعقائدها وموروثها الثقافي.

واليمن بشقيه الجنوبي والشمالي تعرض للمسخ والتغريب، ففي الجنوب استطاع الاستعمار البريطاني أن يفرض التغريب والعلمنة في الحكم والقضاء والإدارة والتعليم والثقافة مع طمس وتهميش للجوهر الإسلامي في كل المجالات وإظهار للخزعبلات والخرافات الدينية فقط وتشجيعها. أما بعد الاستقلال فقد زادت حركة التغريب والعلمانية بفعل حركة اليسار العربي الذي بدأ قومياً وانتهى ماركسياً حتى قيام الوحدة.

أما في الشمال فقد عانى قروناً من دكتاتورية إماميه لمذهب طائفي كرس الطغيان والاستبداد والجهل مع هبوب دائم لرياح التغريب والعلمنة من الجنوب. وحين خلفت الحكم الإمامي حكومة ثورية قومية بدعم من الثورة المصرية العسكرية ساد رسمياً مناخ التغريب والعلمانية جميع مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية بفعل المخزون الكامن من التأثيرات التغريبية السابقة القادمة من الجنوب قبل الثورة وبعدها وبفعل الثقافة الغربية السائدة في الدول العربية.

وحين بدأ النظام الاشتراكي في أوروبا ينهار زامنه صعود النظام الرأسمالي الذي تقوَّى واستوحش تدريجياً في الديمقراطية الغربية ورأى ان الفرصة سانحة للتوسع في العالم الآخر فطالب الدول الأخرى بتطبيق النموذج الغربي للديمقراطية حتى تنتعش وتتمدد الرأسمالية الليبرالية في ظلالها وكانت دولة الوحدة اليمنية إحداها ورغم أن دستور دولة الوحدة كان خميرة لسياسات العلمنة والتغريب إلا أن توقيت قيام دولة الوحدة كان مناسباً لتصفية النظام الاشتراكي وسيادة الرأسمالية والديمقراطية الغربية في اليمن.

وعليه فإن ما نعانيه ونشكو منه اليوم هو تناقض وصدام بين التقاليد الغربية للديمقراطية في الحكم وبين التقاليد العربية والإسلامية في الحكم، وقد كان ينبغي التوفيق بين ما هو مشترك وإنساني ومقبول في تقاليدنا الأصيلة وفي التقاليد الغربية، وعلينا جميعاً دراسة هذا الموضوع وقد كانت لنا محاولة أولى متواضعة ضُمنت في كتاب (الديمقراطية بين الإسلام والغرب) الصادر عن دار عبادي منذ عامين تقريباً.

وسنركز في هذا المقال على المشكلة الرئيسية في تنظيم سلطة الدولة المتعلقة بحزبية (رئاسة الدولة) التي هي السبب الرئيسي في تعثر المشاركة الشعبية ديمقراطياً في السلطة. فالدستور الحالي يقرر أسوة بالنظم الغربية تغيير رئيس الدولة دورياً على فترات منتظمة ويجعله كبعض النظم شريكاً في السلطة الحكومية ويجعله في نفس الوقت غير خاضع للرقابة التي تخضع لها الحكومة. كما إنه يترأس حزباً في بلد العصبيات والقبائل والمصيبة الكبرى لهذا النوع من التقاليد الديمقراطية الغربية هي فتنة الصراع حول منصب رئيس الدولة.

إن تركيز الصراع حول تغيير رئيس الدولة قضية خاسرة لأن رئيس الجمهورية الحالي الأخ/علي عبدالله صالح موجود على رأس الدولة منذ ثلاثين عاماً ولا أعرف رئيساً في الدول العربية أو في اليمن قد ترك المنصب بالانتخاب ورغم محاولة الرئيس قبول هذه الفكرة عقلياً إلا أنه لم يستطع نفسياً تطبيقها، والدستور الطائفي في لبنان الذي وضعه الاستعمار الفرنسي ليس مقياساً صحيحاً لنا ناهيك عن بعض النظم الأخرى، فالتقاليد العربية والإسلامية تقتضي أنه بعد انتخاب ومبايعة رئيس الدولة أو شيخ القبيلة لا يجوز تبديله إلا لأسباب شرعية تتعلق بعقله وجسده وسلوكه الشرعي بشرط أن يكون محايداً حزبياً مما تقتضي منه أن يكون راعياً لجميع الأحزاب ومنسقاً لها ومؤلفاً بينها حسب مصلحة الحكم وضروراته السياسية. إن وجود حزب لرئيس الدولة هو حيلة ديمقراطية لاستخدامه في التحكم والبقاء في السلطة.

والعيب في هذه المسألة ليس بقاء الرئيس في السلطة ما لم يكن شخصاً سيئاً ولكن العيب يكمن في تجنيد أجهزة الدولة لخدمة هذا الحزب الذي يدعي حمل عرش الرئيس في السلطة وإبقائه عليها مما يجعل مثل هذا الحزب مستقطباً لكل العناصر النفعية والانتهازية من مختلف المشارب والمآرب ما دام يوفر لها مجالاً لتحقيق مطامعها ومصالحها في مختلف سلطات الدولة. والنتيجة أن هذا الحزب سيظل قادراً بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة على حسم المنافسة مع الأحزاب الأخرى لصالحه دائماً ما دام مسيطراً وموجهاً لأجهزة الدولة المختلفة، فالأجهزة المدنية والأمنية والعسكرية بحكم ولائها لمنصب رئيس الدولة ستنقاد بالتبعية لمن يتبع الرئيس ويواليه.

إن الشعار الباطني لهذا الحزب حسب الواقع اليمني هو (الرئيس يخدمنا ونحن نخدم الرئيس). إن هذا الوضع الدستوري الحالي لرئيس الجمهورية الذي يسمح له بالتحزب والانحياز ويفرض عليه تجديد مبايعته بالانتخاب كل عدة سنوات كانت وستظل له نتائج سلبية وسيئة في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية نذكر منها ما يلي:

1. لم تحدث أية منافسة حقيقية في كل تجارب الانتخابات البرلمانية في اليمن بين الأحزاب لأن الحزب الذي يرأسه الأخ رئيس الجمهورية كان حريصاً على ضمان بقائه في السلطة ما دام هو الوسيلة لإبقاء رئيس الجمهورية في منصبه، فالتزوير بكافة ألوانه كان سائداً في عمليات الانتخاب.

2. استطاعت القوى المتنفذة في حزب الرئيس أن تدفعه إلى اتباع سياسات ميكافيلية في الحكم والإدارة مما جعل القوى الانتهازية والنفعية تنتعش في ظل هذه الأجواء الميكافيلية للمحافظة على السلطة في كل المستويات بأي ثمن.

3. إن عرض منصب رئيس الدولة في مزاد انتخابي موسمي يعرض الرئيس لابتزاز دائم من القوى المتنفذة أو الضاغطة في الداخل سواء كانت من داخل الحزب أو من خارجه كلما طرأ حدث أو نشأت مشكلة عن معاناة الناس.وفي نفس الوقت فإن القوى الأجنبية تمارس الابتزاز على رئيس الجمهورية سياسياً وفقاً لمصالحها من خلال الشكوى والتباكي على تلويث أو تمزيق أثواب الديمقراطية الأوروبية من خلال وكلاء التسويق السياسي.

4. إن تعريض الرئيس للنقد والتشويه والتجريح الخارج عن حدود الموضوعية بسبب انحيازه الحزبي قد جعل اهتمامه ينصب حول الدفاع عن منصبه والحفاظ عليه والدخول في مناقشات مع الآخرين سراً وعلناً مما شغله كثيراً عن الاهتمام الإيجابي بالقضايا الأساسية للأمة وبالقوى الأخرى على الساحة السياسية.

5. إن انحياز الرئيس الحزبي بما يمثله من سلطة فاعلة في الدولة بحكم اعتماده طويلاً على قاعدة للسلطة في أجهزة الدولة المدنية والعسكرية قد جعل هذه الأجهزة تميل وتنحاز عصبياً حسب انحيازات الرئيس وتعصباته التي تلتهب أثناء الصراعات والخلافات السياسية بتأثير من القوى المتنفذة والنفعية داخل حزب الرئيس الذي أصبح يتنفس في أجوائه ويتشبع بهوائه فأصبح حياد أجهزة الدولة مفقوداً ما دام حياد رئيس الجمهورية غير مضمون أيضاً بحكم وضعه الحزبي وقد ظهر ذلك جلياً وخفياً في أحوال كثيرة.

6. إن من أسوأ الآثار لوجود حزب تابع لرئيس الدولة هو تولية مناصب الدولة بالانتخاب والتعيين لأشخاص ليسوا جديرين، فحزب الرئيس كغيره من الأحزاب يشمل المخلصين والنفعيين غير أنه يتورم بالنفعيين كثيراً الذين يتظاهرون بالولاء والانحياز حتى يتوفقون في اختيارهم لتولي مناصب من قبل جماعات الضغط في الحزب الحاكم. إن تحطيم معيار الجدارة في تولية المناصب وتعطيل سلامة الاختيار والتعيين والعزل هو أكبر سبب للفساد والتعطيل في أجهزة الدولة والمجتمع.

7. إن عدم حيادية رئيس الدولة الحزبية تجعل الحزب التابع له يمكث في السلطة طويلاً مما يكسبه صفات نظام الحزب الواحد من ركود وفساد ومركزية بيروقراطية عقيمة وضعف عام عند الكوارث والملمات القومية لان محور نشاطه النفعي الذي يغلفه دائماً بإظهار الولاءات الشخصية يفقده كثيراً معاني العزة والأمانة والكرامة الأخلاقية والوطنية.

وبناء على ما تقدم نرى أن هذا الإشكال يمكن حله كالآتي:

1) الاتفاق على إبقاء الرئيس علي عبدالله صالح في منصب الرئاسة دون تعريضه للمنافسة في انتخابات دورية شريطة حياده السياسي الكامل نحو بقية القوى الوطنية مع استقالته من الحزب المنتمي إليه حالياً وأدائه القسم بذلك على أن تبقى المنافسة على سلطات الحكومة بين الأحزاب على المجالس المنتخبة مركزياً ومحلياً مع تحديد الواجبات والمسؤوليات بوضوح بين منصب رئيس الدولة وبين الحكومة بحيث تكون المساءلة للطرفين في حدود صلاحياتهما على أن تحدد مجالات التنسيق والتشاور والمشاركة في الحكم بما يضمن حيادية أجهزة الدولة المختلفة مع تشكيل اللجان والمجالس المتخصصة كتعيين وعزل القيادات وكبار موظفي الدولة.

2) لا أقرر هنا أنه لا يوجد من هو أكفأ من رئيس الجمهورية، فهو كغيره من الناس له محاسنه وعيوبه، ولكنه حالياً أكثر الأشخاص مناسبة للوضع الحالي المحلي والإقليمي والدولي فهو قد ساهم في بناء واستقرار شكل الدولة المؤسسي لكن جوهر النظام المؤسسي للدولة يحتاج إلى زمن طويل حتى يترسخ بسُنة التدافع أمراً بمعروف ونهياً عن منكر، فالدولة اليمنية لم تتجسد عملياً فيها بعد قيم الشريعة الإسلامية ومبادئها ومقاصدها ولا حتى روح القانون الوضعي الغربي. إن رئيس الجمهورية يتمتع بمرونة وتجربة تجعلانه قادراً على التطور المؤسسي والتفاهم الودي مع كافة الأطراف حينما يكون محايداً ومقبولاً لديها.

3) إن عدم حل هذا الإشكال القائم سيتفاقم مع الزمن بفعل عوامل عديدة داخلية وخارجية إلى صراع بالقوة على السلطة ضمن مخططات الإمبريالية الغربية في التفكيك والتجزئة لسياسات العولمة المختلفة في البلدان العربية والعالم الإسلامي دفاعاً عن مصالحها وحماية لقاعدتها إسرائيل وعلى رئيس الجمهورية إخراج الدولة من الدوامة برؤية مستقبلية قائمة على أصالة الحضارة الإسلامية ومواكبة الحضارة المعاصرة وإلا فإن الخسارة ستكون عامة ولن يفلت منها أحد.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى