لكم وعدت وأجّلت..

> فضل النقيب:

> كدت أعنون «لكم وعدت وأخلفت»، ولكن لي عذر، فاسترشدت بنصف بيت الشعر العربي المشهور «لعل له عذراً وأنت تلوم» وقد ظل وعدي للزميل الكبير عبدالرحمن خبارة بأن أكتب حول مؤلفه القيم «نشوء وتطور الصحافة في عدن 1937-1967».

يؤرقني وأتوق إلى الوفاء به لا إكراماً للصداقة فحسب، وقد وجبت، ولكن حباً في الكتاب الذي نسقه صاحبه كأجمل باقة ورد ندية عبقة تسعد الناظر وتدير رأس العابر كمن يمر من أمام دكان عطار نفّاح نوّار كما، ويشبع المتأمل في مسيرة الحياة الفنية حين تعلو وتصخب حتى لا تظن لها انطفاء ثم تشحب وتتآكل وتترمد كأن لم تكن بها حياة:

كأن لم يكن بين الحُجون إلى الصفا
أنيسٌ ولم يَسْمُر بمكة سامرُ

وهذه في اعتقادي هي قصة نشوء الصحافة وارتقائها في عدن حتى أصبحت هي المرآة وهي الحياة وهي الحراك وهي الصراع وهي معقد الآمال وميدان الفرسان ومقارعة الطغيان وناشرة العرفان ومستوعب الفنون والجنون، قبل أن يأتي الطوفان وسيل العرم (فبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل)، فقد تصحّر الوادي وتجهّم الجبل وغيض البحر وتصوّع البستان وتفرق أهل الدار «أيدي سبأ»، وهذا في تقديري هو الوجه الآخر الذي قاله الكتاب دون أن يتأوله ولمّح إليه دون أن يصرّح وبكى عليه في الوجدان دون دموع على الخدين، ذلك أن المسرح العامر الغامر المتلألئ بالتعددية والتنوع والاجتهاد والخطباء والكتاب حوصر على غرّة فإذا الكلمة بمواجهة الرصاصة وإذا العقل المتفتح بمواجهة التخوين المسلح وإذا التعددية المتسامحة بمواجهة الشمولية الكاسحة، وإذا بما كان لوحة واعدة فيها أزهار الربيع وهتون المطر ورفيف السانبل وسعادة العيون وتنوير الذهون وإشباع البطون والارتقاء بالعلوم واجتهاد الخلق محبة في الخلق والحق قد أضحى بين عشية وضحاها لوحة من الدم والعدم بحجم الوطن تحرسها الشعارات المدججة والصراعات المؤدلجة والنيران المؤججة، وفي هذه الجهنم الحمراء احترقت جميع الصحف بلا استثناء فتساقط الأعلام وجفت الأقلام ورُدمت الأتلام، فأصبحنا وأصبح الملك لله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

الأستاذ الخلوق قلبا وقالبا ولسانا ووجدانا عبدالرحمن خباره وزّع روحه في الكتاب الجميل الأنيس فلم يطل على قارئه ولم يثقل وإنما أخذ يتنقل كالفراشة الذهبية من زهرة إلى زهرة، وهذا في عالم الكتاب اقتدار عظيم، لأن الإطالة قد تغري حتى تهري، والقارئ إذا أعْنَتَه الكاتب يفلّ ويجري ولا يعود إلى الشجرة التي خبر المر من ثمارها (لا أذود الطير عن شجر/ قد بلوت المر من ثمره).. ولقد اتخذ عبدالرحمن منهجا سهلا عليه ممتنعا على غيره، وخلف تلك السهولة تقف موهبة مميزة وجهد كبير أشار إليه في المقدمة، حيث عمل في ميدان بكر اقتضى منه الرجوع إلى مطبوعات لاحصر لها تمتد على ثلاثة عقود دون أن تكون موثقة في مركز واحد أو مراجع سابقة مشغولة ومطبوعة أو حتى لدى الدور والصحف نفسها، ومع ذلك فقد نجح عبر سنوات ممتدة في الوصول إلى مظان كانت عصية فاستنطقها واستعطاها بلطف، أو لنقل أنه تركها تتحدث إلينا بكامل حريتها دون أن يقولها أو يؤولها. ومن أجل متعة القارئ تضمن الكتاب مختارات كتابية كاشفة لكتّاب كبار كانوا ملء سمع عدن وبصرها، فعرفنا عن حقب سادت ثم بادت مالم نكن نعرف حول التركيبة الاجتماعية والحياة الاقتصادية والاهتمامات الفكرية والثقافية وتمازج الجنسيات ائتلافا واختلافا وكيف كان يدير الإنجليز هذا الشتات المختلط، وكيف نهض العنصر العربي من رواد الصحافة ونشطاء المجتمع وقادة الرأي العام والخريجين الجدد الذين أصبحوا خلال فترة وجيزة من أعمدة الحياة الاجتماعية والعلمية والثقافية إضافة إلى العمال والتجار والحرفيين وحتى فتوات الحارة بدورهم في استيلاد الحياة الجديدة وإشراقة الحركة الوطنية. وقد أراد عبدالرحمن أن يقول لنا أن لاشيء يأتي من لاشيء وأن من يتصور نفسه أو دوره بداية ونهاية التاريخ إنما يؤسس لنسيان دوره هو حتى يغدو نسيا منسيا، ذلك أنه كما تدين تدان، ونضج المجتمعات والثقافات يتمثل في احترام الأجيال لسابقيها واستلهام أعمالهم وإبقاء الصلاحية متواترة متناسجة، فالابن إذا أنكر أباه فإلى من ينتسب؟ ولقد قيل الكثير عن الفراعنة وكشطهم لأسماء من سبقوهم مبدعي الآثار ليحلوا أسماءهم بدلاً، ويبدو أن هذه الغريزة الفرعونية هي مرض إنساني يدل على كفران النعمة وعقوق المنة وقطيعة الأرحام، ولم تسلم من هذا المرض سوى الديمقراطيات الحديثة التي جعلت من التاريخ مراحا للعقل ومنجما للعبر وأدبا للاختلاف وليس سببا للخلاف بحيث أصبح الجمع بين الملكة اليزابيث أو فيكتوريا ملكتي بريطانيا وبين «كرومويل» قاتل الملوك أمرا لا يبعث على الاستغراب ولايثير الحفيظة ولا يستدعي إشهار الخناجر من أغمادها، فالتاريخ يرحل إلى المحيط والأمواج تلهو على الشاطئ وإذا كان المحيط هو العمق أي الماضي فإن الشاطئ هو ملعب الأحياء وسيتسع لهم جميعاً إذا اتسعت عقولهم واطمأنت نفوسهم وشرعوا لحياتهم قوانين العيش والمعايشة التي تناسبهم.

لقد استرسلت وأبعدت والكتاب أمامي يتطلع إليّ مندهشا من هذا التوهان.. موعدنا الأسبوع القادم.. ومعذرة يا ابن خبارة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى