الشحر.. مدينة ..تاريخية آثارها مهملة!

> «الأيام» محمد سالم قطن

>
دار ناصر بعد خرابها
دار ناصر بعد خرابها
مدينة الشحر.. واحدة من أقدم المدن اليمنية، وقد أعطت هذه المدينة اسمها منذ القدم لأطول سواحل جنوب شبه الجزيرة العربية، وهو المنطقة الساحلية الممتدة من شواطئ أبين غرباً وحتى شواطئ ظفار شرقاً، فهذه المنطقة الساحلية كانت تسمى في كتابات المؤرخين الأقدمين بمنطقة (الشحر).

ولعل السبب في ذلك يعود إلى شهرة ميناء الشحر القديم الذي كان أحد أهم ثلاثة موانئ على الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية، وهي ميناء عدن، ميناء مسقط، وميناء الشحر.. ولقد جرى ذكر هذا الميناء في دواوين الملاحة، وفي روزنامات نواخذة السفن الشراعية التي كانت، وإلى زمن قريب، شريان الملاحة البحرية قبل اكتشاف طاقة البخار واختراع الآلآت البخارية.

نحن نقف الآن على شاطئ هذه المدينة، حيث لم يعد أمامنا أي أثر لذلك الميناء القديم، سوى ميناء سمكي صغير جرى تشييد مرحلته الأولى قبل عامين، وينتظر استكمال المرحلة الثانية منه.. لم نر من آثار الميناء القديم شيئاً سوى مبنى الجمرك، وهو مبنى جرى ترميمه مرات ومرات ليفي بأغراض أخرى ليس منها الوفاء لقصة الميناء التاريخي لحضرموت الذي شهدت أيامه الأخيرة حكايات تروى إلى اليوم عن هجرات الحضارمة إلى سواحل الهند أولاً ثم جاوة وسنغافورة وجزر الملايو في جنوب شرق آسيا بعد ذلك، وأيضاً إلى سواحل إفريقيا الشرقية وغيرها من البلدان .

لانريد أن نتوقف كثيراً مع أسباب تلاشي معالم آثار تلك الحقبة التاريخية التي ازدهر فيها نشاط هذا الميناء، ونكتفي بالقول إنها عوامل التعرية، خاصة أن عوامل التعرية ليست كلها طبيعية- كما اعتدنا أن نقول - بل إن من العوامل ماهو بشري أيضاً، وقبل بضع سنوات جاءت إلى هنا بعثة أثرية فرنسية ونقبت كثيراً في منطقة الشاطئ بحثا عن آثار الميناء القديم ووجدت فيما وجدت بعض (اللقيات) والنماذج كشفت من خلالها عن علاقة ميناء الشحر القديم بموانئ تاريخية أخرى من موانئ الدولة الإسلامية في عصرها العباسي، ووعدت البعثة الفرنسية، وهي تغادر الشحر بمواصلة التنقيب، لكن التخطيط والصرف العشوائيين لقطع الأراضي لم يتركا لهذه البقعة الأثرية أن تكشف عن ما تختزنه، حيث يقف اليوم على رأس التل الأثري المذكور معمل لحفظ وتخزين الأسماك !!

الشحر اليوم مدينة كبيرة متسعة، فقد جرى مع مرور الزمن هدم الجزء الأكبر من السور الطيني الهائل الذي كان يحيط بالمدينة القديمة كان آخر عملية بناء وتوسيع لهذا السور قد تمت في ثمانينات القرن التاسع عشر الميلادي في عهد ما كانت تسمى بـ (الدولة القعيطية)، حيث كانت مدينة الشحر هي عاصمة تلك الدولة، هذا السور وقصة بنائه جرى تخليدهما عبر مسرحية تاريخية كتبها الأستاذ والمؤرخ الراحل محمد عبدالقادر بامطرف تحت عنوان (سور الشحر)، جرى إخراجها وتقديمها مسرحياً وتلفزيونياً.

خلال العصور الوسيطة من تاريخ حضرموت، وبعد تشظي الدولة العربية الإسلامية بانهيار الخلافة العباسية، وماتلاها من دول أقاليم الأطراف، جاءت دويلات محلية تظهر وتختفي، تمتد وتتقلص وفقاً ومبدأ الغلبة والصراع المستمر، فخلال المعارك القبلية والحروب المتوالية التي عصفت بحضرموت .

بين الدويلات المحلية المتنافسة في تلك الفترة التاريخية كانت الشحر هي الجائزة التي يحرص المنتصرون على الظفر بها، فهي الميناء والسوق والعاصمة، ليس هذا فقط، بل إن الغزاة والقراصنة كانت أبصارهم كثيراً ما ترنو إلى هذا السوق، لعل أن يكون لهم فيه موطئ قدم.

وما حدث للشحر أواخر القرن السادس عشر الميلادي على أيدي المستعمرين البرتغاليين من هدم وتدمير مازال مداده طرياً في دفاتر التاريخ، وقد سجلت قصته في هذه الدفاتر تحت عنوان (المقاومة الشعبية ضد الغزو البرتغالي) و(قصة الشهداء السبعة) التي كتبها المؤرخ بامطرف نفسه.

معظم معالم تاريخ هذه المدينة قد اندثرت ولم يبق منها سوى القليل المهمل الذي أبقاه الزمان شاهداً على جهل الخلف بمآثر السلف، أقول هذا ونحن نقف في هذه اللحظة ننظر إلى ما فعلته عوامل التعرية البشرية منها قبل الطبيعية بمعلمين مهمين من معالم تاريخ مدينة الشحر في العصر الوسيط هما (دار ناصر) قصر الدولة القديمة وديوانها، و(حسن بن عياش) ترسانة الدولة القديمة ووزارة دفاعها!!

الخراب الطبيعي ونعيق الغربان قد يكونان أهون في بعض الحالات مما لحق بما تبقى من (دار ناصر)، حيث جرى تحويل قاعدته وواجهاته إلى مصاطب وحوانيت وأكشاك، الخراب تراكم بفعل الإهمال في الطبقات العلوية منه، السلالم الحجرية انهارت، والجدران تصدعت والقاعات الوثيرة التي طالما استضافت أمراء الزمن القديم ومجالس حكمهم ومؤتمراتهم تحولت إلى طلل بال وصرح يريد أن ينقض.

القصر الذي أمامي هو مقر الحكم طيلة الفترة من عام 1768م وحتى مطلع ثمانينيات القرن العشرين، بناه الأمير ناجي بن عمر بن بريك مؤسس الإمارة البريكية في الشحر، التي حكمت من عام 1751م وحتى عام 1866م.

بوابة سدة العيدروس
بوابة سدة العيدروس
استمر هذا القصر مقراً للدولة حتى بعد زوال الإمارة البريكية على يد جيش الدولة الكثيرية، إن تمكنت الدولة القعيطية الناشئة وقتئذ، من إزاحة الدولة الكثيرية من الشحر عام 1871م، لتصبح هذه المدينة عاصمة للسلطنة القعيطية حتى مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين، عندما انتقلت العاصمة إلى المكلا العاصمة، الحالية لحضرموت، وخلال الفترة الممتدة من عام 1871م وحتى عام 1967م (عام سقوط السلطنة القعيطية).

وكذلك السنوات العشر الأولى التي تلت الاستقلال، كان هذا القصر داراً للحكومة، ضم مختلف الإدارات والمحاكم والدواوين، إذ قام العهد القعيطي ببناء طابق إضافي جديد لهذا القصر.

إضافة إلى الصالات والغرف الجديدة التي بنيت على الطراز المعماري الهندي، كانت الغرف العلوية تعرف بـ (البناقل)، ومن بينها اثنتان شهيرتان كانت الأولى مقراً لمجلس السلطان، والأخرى مقراً للمستشار البريطاني المقيم في ذلك الزمان.

ذلك الصرح أضحى اليوم خراباً وطللاً بالياً تسكنه الأشباح وتأوي إليه الحيوانات الضالة، واستأثرت طيور البوم بما تبقى من سارية العلم القديم، وفي عتمة الليل وحتى اقتراب الفجر من كل ليلة ويوم يسمع جيران القصر المنهار والصرح الذي هوى معزوفة قبيحة حزينة، يتوالى فيها نعيب البوم خلف نعيق الغراب.. وياحصن مول البناقل ما أحلى ركونك، اللي خربوا دار بصعر بايخربونك.

الشيء نفسه يتكرر مع بقية الآثار التاريخية للمدينة، إذ أقامت الدول القديمة التي حكمت حضرموت عدداً من الأكوات والحصون على امتداد طريق القوافل التجارية، التي كانت تسير من ميناء الشحر وسوقها القديم إلى مدن الداخل الحضرمي تريم وسيئون وشبام. مازال بعض هذه الأكوات قائما إلى اليوم.

لكن غالبيتها قد انهارت ولم تجد من يتعاهدها بالصيانة والترميم تذكاراً للدور الذي لعبته هذه الأكوات في حراسة تلك القوافل التاريخية التي طالما مرت عبر هذه الطريق طوال القرون التي خلت .

الشحر الجديدة اليوم تختلف بكثير عن تلك القديمة التي كان يحصرها السور، فقد ظهرت أحياء سكنية جديدة، طريقة البناء وأسلوب معمار المنازل تغير، اختفت تقريباً تلك المنازل الفسيحة التي كانت تبنى على طريقة المطارح:

السدة الكبيرة والسقيفة والحجوة المكشوفة والضيق والدرع، والتي كانت تسكنها العائلات المركبة.. تفرقت العائلة المركبة إلى أسر متعددة لكل منها منزلها المستقل الحجري الصغير .

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى