النظرة «القانونية» عند السلطة السياسية.. أهدي مقالي هذا إلى كل قاض يمني (2-2)

> علي هيثم الغريب:

> منذ اليوم الأول للمحاكمة أي في 28 مايو 2008م وأمام محكمة أمن الدولة العليا في صنعاء استطاعت الأوساط المدنية والسياسية العالمية والمحلية أن ترى هوة حقيقية بين الجهود التي يكشفها الواقع في الجنوب للحكومة الرامية إلى الظهور بمظهر الدولة الوحدوية والديمقراطية «على النمط الألماني».

وبين واقع الانتهاكات المستمرة الفظة للإنسان في الجنوب.

وقد اعتزم مراقبو حقوق الإنسان والفضائيات العربية والدولية ومنظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب الدخول إلى قاعة محكمة أمن الدولة المتخصصة قبل بداية الجلسة الأولى، حيث استقبلنا مئات من المتعاطفين معنا من أبناء محافظات الشمال من الجنوبيين، الذين قطعوا المئات من الكيلو مترات من أجل الوصول إلى صنعاء التي تركوها بعد حرب 94م، وحوالي مائة من ممثلي وسائل الإعلام العامة المحلية والعربية والدولية.. ومئات من رجال الأمن المدنيين والمدججين بالسلاح الذين حاصروا مبنى المحكمة، وتوزع الآخرون عند الأبواب وعلى سطوح وشرفات المساكن المجاورة.. وتعرض الأخ أشيد قاسم للاعتقال نتيجة حضوره، وبقي معنا تحت الأرض حتى يوم خروجنا.

أحضرونا في عربة مصفحة (عربة الأمن)، وكنا نسمع أصوات الهتاف من الخارج، وأصوات أخرى تدعونا بأسمائنا.. وما أن خرجنا مكبلين بالأغلال حتى علت أصوات التحية والتصفيق من الحاضرين.. مختلطة مع أصوات الأطقم العسكرية وأبواق الونانات المرتفعة.. وقد شاهد رفاقنا الحاضرون كيف بدا النحول علينا نتيجة نقص الطعام خلال فترة السجن وتركنا في زنازين انفرادية تحت الأرض.. لا نعرف عن العالم شيئا.

لقد تعرضنا لمحن قاسية، حيث قام رجال الأمن باعتقالنا من منازلنا وخلافاً للدستور وعدة مواد قانونية.. ثم أخذنا إلى صنعاء بطائرة عسكرية خاصة، وتعرضنا خلال السجن لاستجواب، وفي النيابة لأسوأ أنواع الإذلال.. وهذا ما تسبب في نقل المناضل حسن باعوم إلى المستشفى والتحقيق معه من قبل النيابة المتخصصة هناك.. ووجهت إلينا تهم عديدة على أساس مواد دستورية وجنائية.. وقد أدرج (الفائزون) الذين قبضوا سلطات الوحدة بعد حرب 94م هذه البنود في القانون الأساسي (الدستور)، وسنوا قانون الإجراءات الجزائية رقم 12 لسنة 94م، مستلهمين «قوانين العقاب» التي أصدرها النظامان في صنعاء وعدن قبل إعلان الوحدة.

وهو القانون الذي شكل ثاني خرق دستوري (أول خرق كان تعديل الدستور بغياب الشريك بالوحدة، سواءً أكان قبل الحرب أم بعدها، أي الشريك الجنوبي)، عندما حوكمت على ضوئه قائمة الـ 16 الجنوبية عام 1996م.. وعلى ضوئه كذلك تتحاكم قائمة الـ 16 الجديدة أمام محاكمة أمن الدولة في نفس صنعاء، عام 2008م.

لقد سمح القاضي الفاضل محسن علوان بدخول محامي الدفاع إلى القاعة، ولكن رئيس النيابة دهش لتدفق عشرات المحامين بعضهم بروباتهم القضائية، ولم يحتلوا أي مكان شاغر في القاعة، بل تركوها للحضور من قادة الفكر والحقوق والحياة السياسية والمدنية، وظلوا واقفين شأنهم شأن رجال الإعلام الذين لم يسمح لهم إلا في الجلسة الأولى فقط.

وتعالت صرخات الاحتجاج من المحاميين لأن كل الجهات منعتهم من الجلوس مع المتهمين، وكذلك صرخات الأستاذ محمد غالب أحمد عضو المكتب السياسي للاشتراكي، لأن رجال الأمن استعملوا القوة لمنعه من الدخول إلى القاعة بدون أي سند قانوني أو أمر من القاضي.. وشهدنا مشهداً مثيراً، حيث اقترب عدد من أبناء الشمال والجنوب معاً محاولين عناقنا مشجعين، ولكن كان القضبان الحديدي هو المانع.. وفي هذه الأثناء استمر المراقبون والمواطنون الذين لم يدخلوا القاعة بالتعبير عن احتجاجهم.. وعلى الرغم من حضور قادة ثورة 14 أكتوبر مثل الأستاذ علي صالح عباد مقبل ، والمناضل الوطني الكبير ياسين سعيد نعمان، والبرلمانيين والحقوقيين والشخصيات الثقافية والقنوات الفضائية وعلى رأسها: «الجزيرة»، «العربية»، «الحرة»، و«المستقلة»، وغيرها، والصحف وعلى رأسها «الأيام»، فقد استخفت السلطة بفظاظة ليس بحقوق المتهمين فحسب، بل وبالمدافعين عنهم أيضا.. ولم يرفض طلب نقلنا من تحت الأرض إلى فوق الأرض من قبل القاضي، ولكن الكل كان يعلم أننا تحت تصرف فخامة الرئيس علي عبدالله صالح.. وكان من المعروف سلفاً أن مجموعة كبيرة من وسائل الإعلام العربية والأجنبية ووممثلي الصحافة وحقوق الإنسان، سيحضرون المحاكمة، فإن الرفض بحضور هذه الوجوه في الجلسات اللاحقة لم يكن سوى محاولة مقنعة بصورة سيئة لإجراء المحاكمة وراء أبواب شبه مغلقة.. حتى أن الجلستين الأخيرتين (الثانية والثالثة) لم يحضر فيهما لا إعلام ولا صحافة ولا محامين ولا حقوقيين ماعدا أقرباءنا.. وفي الجلسة الثانية غيرت النيابة تكتيكها، إذ سمحت بدفعها بدخول مجموعة الدفاع واعتراضت سبيل الإعلام كاملاً، عندها خرج المدافعون كلهم من القاعة احتجاجاً على ذلك.. والحقيقة خلافاً للجلسة الأولى التي استطاع فيها الصحفيون المحليون والأجانب حضورها والتي جرى فيها تلاوة قرار الاتهام والذي نشر كاملاً في القناة الأولى وقناة عدن، وفي أكثر من مائة قناة فضائية.. ولكون المحامون قد أصبحوا متهمين فقد فقدوا حق الدفاع عنا.. وبهذه الطريقة حاولت السلطات تخويف الحقوقيين الآخرين الذين يمكن أن يأخذوا على عاتقهم قضية الدفاع.. ورداً على ذلك أخذت نقابة المحامين في صنعاء بصورة شبه جماعية عن استعدادها للدفاع عنا. ولم تنتهك السلطات في صنعاء حقوقنا فقط ، بل حدث صدام بين المواطنين في كافة محافظات الجنوب والأمن، وأطلق الرصاص على أبناء الصبيحة وردفان والضالع وعدن بصورة غير وطنية، ودفعوا بالمئات إلى السجون وأخذوا دورهم بالمحاكمات التي حددت لهذا الغرض.. وما محاكمتنا سوى القمة الطافية من جبل الجليد العائم، إذ أن القمع والعنف المنتظمين هما صفة ملازمة للحكومة، يمارسان في كافة محافظات الجنوب.. وعلى الرغم من أن بلادنا وقعت على خمس وثائق حقوقية دولية حول تحريم انتهاك حقوق الإنسان إلا أن هذه الممارسات مازالت مستمرة.

وعلى الرغم من الاهتمام الذي تبديه الأوساط الحقوقية والاجتماعية والحزبية في متابعتها للمحاكمة فإن السلطات استمرت في انتهاك أبسط أصول المحاكمات.. وعلى الرغم من محاولات القاضي منحنا حقوقنا الأولية وفق الدستور إلا أن محاولاته باءت بالفشل. وقد عقد المحامون مؤتمراً صحفياً في صنعاء، حيث عبروا فيه عن امتعاضهم لحدوث العديد من أعمال التعسف والأفعال المخالفة للقانون.. وعقدت بعض الفضائيات ندوات مطولة حول القضية الجنوبية وقضية المحاكمة.. وأعلن المشاركون الأجانب فيها أن الاستمرار في انتهاك حقوق الإنسان في الجنوب يعرقل الهامش الديمقراطي من الاستمرار ويفسد الوحدة بين الشمال والجنوب. وبعد أن قضينا أربعة أشهر بالزنازين الانفرادية تحت الأرض (من 1 إبريل إلى 1 يوليو 2008م) نقلونا إلى زنزانة ضمت (المتهمين الأربعة: منصر والغريب وبن فريد والشعيبي) قضينا الأربعة الأشهر الأولى كلها داخل الزنزانات الانفرادية تحت الأرض لا نعرف عن العالم شيئاً، باستثناء ربع ساعة كنا نشاهد فيها الأقارب خلال زيارتهم لنا كل أسبوع مرة ومن خلف حاجز حديدي يفصلنا عنهم.. وذات يوم وعند طلوعي إلى الزيارة وبينما كنت أتحدث من وراء الحاجز مع ابني لمحت صحيفة رسمية تركها أحد الحراس على كرسي في أقصى الممر، وقيمة الصحف بالنسبة للسجين السياسي أعظم من قيمة الذهب، يهفو إليها أكثر من شوقه للطعام، كما أنها أكثر الممنوعات أهمية علينا، فالأخبار بالنسبة لنا كانت تعتبر المادة الفكرية الوحيدة لإنعاش معنوياتنا، حيث منعونا من الصحف بجميع أنواعها.. فكان ابني يحدثني عن بعد وأنا أحاول قراءة بعض عنوان الصحيفة، فجاء الحارس وقال انتهت المقابلة.. فلا سمعت ما قاله ابني ولا استطعت قراءة كلمة في الصحيفة.. وهكذا خسرت المقابلة التي سأنتظرها أسبوعا ثانياٍ.

وحاولت الإدارة أن تفرض منعاً باتاً لزيارتنا من قبل بعض الأصدقاء وأعضاء مجلس النواب كي تحول بيننا وبين معرفة أي شيء من شأنه أن يرفع معنوياتنا أو معرفة حال من تشغلهم قضيتنا، حيث شكلت حيازة الصحف أو مدنا بالأكل مخالفات كبيرة.

بعد خمسين يوماً بدأت الجلسة الثانية من المحاكمة، فشرعنا نحن بالطعن في لائحة الاتهام نفسها، وذلك بعد انسحاب المحامين، وقلنا إن التهم الموجهة إلينا (حسن أحمد باعوم ويحيى غالب الشعيبي وعلي هيثم الغريب) عائمة وتنقصها الأدلة، وإنه من الضروري للادعاء كي يثبت جريمة «تشكيل عصابة مسلحة» أن يقدم أدلة قاطعة على وجود ذلك. طبعاً حتى الادعاء كان يعلم أنه لا وجود لذلك وكان يعلم أن كلامنا هو كل الحقائق.. وقد سألت القاضي (لأننا كنا متفقين ألا نوجه كلامنا إلا للقاضي وليس إلى الادعاء) «لماذا سحبت النيابة لائحة الاتهام الأولى الموجهة ضدي وأتت بلائحة اتهام أخرى؟ ولماذا قدمت النيابة لائحة اتهام أخرى إلى المحكمة غير التي قرأتها هي؟!»، طبعاً كنا ننتظر أكثر مما نتوقع، ونعرف بالوسائل التي تتبعها الدولة، وهذا جعلنا لا نتسرع في كشف ما عندنا من إدانات للنظام، بعد ثلاثة أشهر أصدرت النيابة الجزائية المتخصصة لائحة اتهام جديدة بنفس صياغة الاتهامات السابقة ضد أحمد عمر بن فريد ومحمود حسن زيد وعبدربه الهميشي، وكذلك ضد علي منصر محمد وعيدروس الدهبلي وناجي العربي وحسين البكيري، وأعلنوا أن محاكمة الدفعة الثانية والثالثة من المتهمين الجنوبيين ستعقد في 27 و28 يوليو 2008م، وأن البقية (حسن زيد بن يمين وناصر الفضلي) سيحاكمان في وقت لاحق.

في الجلسة الثالثة التي عقدت لمحاكمتنا (باعوم والشعيبي والغريب) أصبح على الادعاء بموجب لائحة الاتهام الجديدة إثبات ضلوعنا في تشكيل عصابة مسلحة أو المس بالوحدة الوطنية أو استعمال العنف. أشار رئيس أمن الدولة العليا إلى أن المتهمين الثلاثة كانوا يعملون لتحقيق أهدافهم باستعمال العنف، وبدأ بقراءات أدلته ضد المتهم الأول حسن أحمد باعوام، وأهم ماجاء فيه قراءات مكالمة تليفونية جرت بين باعوم وشخص آخر حول ما حدث في فعالية 13 يناير 2008م في عدن واستشهاد أحد رموز الحراك في يافع الشهيد صالح أبوبكر اليافعي.. وبعد تواصل الجدال مع المحامي الدولي المعروف الدكتور محمد علي السقاف محامي المتهم باعوم شهدت القاعة الخالية من المحامين والاعلاميين هرجا واستنكارا، كان الادعاء يعرف أن المحامين قد انسحبوا ولا يوجد من يتبادل معها الحيل والمناورات القانونية، على الرغم من تمكن الدكتور السقاف (وهو المحامي الوحيد في القاعة) مراراً وتكراراً من كشف زيف ادعاءات الحكومة التي أكدت لوسائل الإعلام أن المحكمة سوف تستمر، ولايهم تكلفتها الوطنية والأخلاقية والقانونية.. (في تلك الأثناء كان بعض المتهمين بالتفجيرات يأتي من منزلهم إلى المحكمة، بينما نحن أبناء الجنوب كنا نحضر المحكمة بحراسات خيالية من الأمن والأطقم العسكرية والكلبشات المؤلمة).

في الأيام الأولى من اعتقالنا شكلت لجنة لمعالجة الأراضي في الجنوب، وكان ذلك أساس ما سمته الدولة «إعادة الأراضي المنهوبة». وأصدرت الدولة في الوقت نفسه توجيه إلى البرلمان بتعديل قانون الحكم المحلي رقم (4) لسنة 2001م بشأن انتخاب المحافظين بدلاً من تعيينهم، وهو إجراء غير عملي بالنسبة لمعالجة القضية الجنوبية، والنقطة الأولى من المعالجة لقضايا الأراضي فإنها لا يمكن أن تعالج بتشكيل اللجان، لأن هناك أسس غير أخلاقية وغير إنسانية قامت عليها سياسة «الحلفاء» من القبائل والأحزاب في الشمال التي وزعت أملاك الدولة السابقة في الجنوب وأملاك رجال الدولة السابقة وبعض المواطنين والمخططات المصروفة لموظفي الدولة في الجنوب من العسكريين والمدنيين والمزارع والشواطئ والجبال في عدن والمكلا، أي تقريباً 90 % من هذه الأملاك على عدد محدود جداً من المتنفذين. وعلى الرغم من وجود ثلثي الجنوبيين فيما يسمى «المناطق البيضاء» إلا أن الدولة المنتصرة وبناءً على السياسة الجديدة اعتبرت تلك الأراضي أراضي دولة، فلا أملاك لهم في مناطقهم الخاصة بهم.. هكذا شهدت تلك المناطق مع مناطق الريف والمدن غلياناً شعبياً، وخلال محاكماتنا اعتقل العشرات والآلاف من طلاب الجامعة وتلك المناطق الفقيرة، وحوكموا وسجنوا وقتلوا، وفي مناطق الصبيحة وأبين بلغت المظاهرات والاحتجاجات السلمية درجة من الغليان ورفض السكان في بعض مناطق الصبيحة التعامل مع الإدارات الحكومية. ولعبت أحزاب المشترك وقياداتها في صنعاء دوراً بارزاً في إدارة اللعبة السياسية في سبيل إطلاق سراحنا، وكانت مسألة الإفراج عنا هي النقطة الأولى في تفاوض أحزاب المشترك مع الحكومة، بل أنها مرتبطة بالموافقة على قانون الانتخابات الجديد الذي سيطر على جلسات مجلس النواب.. وقد قال الأخ علي محسن الأحمر: «لماذا لا يفرج عن هؤلاء؟ فماذا عملوا؟ فهل «قرحوا طماشة واحدة؟». وعلى الرغم من القمع استمرت الاحتجاجات في كافة محافظات الجنوب خاصة أبين والصبيحة ونتيجة الحصار العسكري والأمني على الضالع وردفان وملاحقة رموز الحراك السلمي فيهما، إلا أنهم انتقلوا إلى يافع حيث كانت موجات الاحتجاجات في مديرياتها تندلع يومياً.. وأقيم مخيم في منطقة علي هيثم الغريب باسم «الوفاء».

حاول البعض زيارتنا في السجن السياسي إلا أنه لم يسمح لهم بذلك، وبدأت محاكمة المجموعة الثانية من المتهمين في يومين متتاليين (28-27 يوليو 2008).. ووجهة إليهم التهم الرسمية ورفضوا جميعاً الاعتراف بها.. وفي تلك الجلستين أيضاً انسحب فريق الدفاع لعدم قانونية الإجراءات القضائية.

إن المقالات التي نشرتها في صحيفة «الأيام» والتي أدانوني من خلالها، هي تلك المقالات التي استعرضت فيها المناسبات التي لاحصر لها التي قدمنا فيها مظالمنا للجهات الرسمية وتجاهل تلك الجهات الحكومية لنا وتغاضيها عنا، وأشرت إلى التصالح والتسامح الذي أتمناه في جمعية ردفان الخيرية في 13يناير 2006م، ثم الاعتصامات كوسيلة مشروعة، وقانونية (المادة 19 من قانون تنظيم المظاهرات والمسيرات) في أيدينا بعد أن رفضت الحكومة اتخاذ أية خطوات لتلبية مطالبن.. فالحكومة هي التي استخدمت العنف في مواجهة مطالبنا، وتصرفات الحكومة هي السبب في اتخاذنا من الاعتصامات السلمية طريقا جديدا لتذكيرها بمطالبنا المشروعة والعادلة، ودفع كثير من أبناء الجنوب الثمن بسب ما يطالبون به من حقوق.

ولا ننسى تعاطف ووقوف الناس من أبناء صنعاء معنا - مواطنين ومحامين وإعلاميين، من النساء والرجال.. ووصلنا إلى قناعة أنه مهما كان الظلم الذي يمارس ضدنا من قبل شلة الفيد فإنه لن يغير من تجردنا وحبنا لأخواننا من أبناء الشمال الذين أقمنا الوحدة معهم فعلاً وليس مع ناهبي أملاكنا. بعد الجلسة الثالثة (26 يوليو 2008م) من المحاكمة عدنا إلى زنازيننا الانفرادية الكئيبة التي عشنا فيها حتى ذلك الوقت (86 يوماً تقريباً)، كسجناء غير مدنيين، بل مجرد متهمين ينتظرون المحاكمة، وقوبلنا فيها بكل جفاء وإهمال.. نزعت عنا ملالبس المحكمة الزرقاء ولبسنا بدلة السجن وبدأت رحلة «التفكير الانفرادي».. كنا نعيش في عزلة تامة لم أر وجه سجين سواءً من زملائي أو سجين آخر.. كنا نقضي 24 ساعة كل يوم داخل زنازين انفرادية مقفلة ما عدا الذهاب إلى الحمام قبل كل صلاة من الصلوات الخمس.. وكانت الساعة تمر وكأنها سنة، وبما أن الزنزانة تحت الأرض فقد كان في سقفها مصباح كهربائي يشتعل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم لم يكن لدينا ساعة، فكان يلتبس علينا الليل والنهار، وقد قرأت أن هناك من السجناء السياسيين في بعض البلدان غير الديمقراطية من فضلوا الجلد على العزلة، لم يسمح لنا ولم نجد أحد نتحدث معه.. والشخص الوحيد الذي نراه هو الحارس.

تذكرت في هذه الأثناء ما قاله الزعيم مانديلا: «صرفت لي بدلة السجن الرسمية الخاصة بالإفريقيين، وهي عبارة عن سروالين قصيرين وقميص من الكاكي الخشن وسترة من قماش القنب وزوج من الجوارب وحذاء صندل وقبعة من القماش وأخبرت السلطات بأنني غير مستعد تحت أي ظرف من الظروف أن ارتدي السروال القصير، وبأنني على استعداد للاحتجاج على ذلك أمام المحكمة»، فقال له مدير السجن: «يمكن أن ترتدي السروال الطويل وأن تتناول طعاما خاصا لكن بشرط أن تعزل عن بقية السجناء»، أجاب مانديلا: «العزلة لا تغيرني طالما ارتديت وأكلت ما أريد»، وبعد عدة أسابيع من السجن الانفرادي قال مانديلا : «وجدت نفسي بعد عدة أسابيع من السجن الانفرادي على استعداد لأن أدوس عن كبريائي وأتنازل عن سروالي الطويل مقابل إنهاء عزلتي»، وأضاف: «وبعد مثابرة على الطلب استجابت سلطات السجن لمطلبي مع تحذير شديد اللهجة.. تنفست الصعداء وأقبلت على تناول مخلوط دقيق الشوفان - أكلة رخيصة- بنهم لم أعهده في نفسي من قبل !!».

إننا عندما دخلنا الوحدة كنا نعتقد أن الغرض الأول من النظام الجديد المتفق عليه هو جعلنا أحراراً على أملاكنا وأراضينا، وأن تسود العدالة لا القتل والقمع والتعسف،.. وكنا نعتبر الوحدة غاية ووسيلة معاً.. وأن أكبر خطر على الوحدة هو تحويل الأرض والثروة إلى أملاك خاصة لغير أصحابها الأصليين من أبناء الجنوب.. وكان على الدولة أن تحسب حسابها لتلك الموجة من العنف والنهب وتغييب الحقوق التي انطلقت بعد حرب 94م.. وكل ذلك كان واضحا لديها تمام الوضوح غير محتاج إلى تدليل.. وعندما أتينا لنعدد تلك الجرائم أصبحنا مجرمين وانفصاليين.. وهكذا فلا وجدت لنا محاكمة عادلة ولاصحافة حرة.. فلا قانون كفل لنا حق كشف المظالم، ولا قانون عاقب المجرمين الذين قتلوا الأبرياء العزل بعد أن نهبوا حقوقهم.. وتعرف النيابة أن القانون يفرض عليها واجب تحقيق العدالة لا إدانة البريء (المتهم)، وكنت أتمنى أن تؤدي النيابة دورها الشرعي والقانوني كما أديناه نحن المتهمين في نظرها.. ولكن لقد اتضح لنا (نحن أبناء الجنوب) بأننا في نظر السلطة السياسية سنظل خاضعين للإجراءات الجزائية حتى لو كانت أعمالنا ومطالبنا وكلامنا مشروعاً، والسلطة السياسية تستطيع أن تحكم علينا بأية عقوبة، ولكنها لا تستطيع أن تجعل منا مذنبين.. بل ولا حتى متهمين، وإن ضوء عدالة القضية الجنوبية سوف يضيء الطريق ويطهر العقول من دنسها، وعلى الدولة أن تعرف الجنوب على حقيقته.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى