النظام التعليمي - بناء نظامي على خلفية مأزومة

> د.عبدالله عوبل:

> 1- الأهداف التربوية.. بغض النظر عن البدايات المختلفة للنظم التعليمية المختلفة في عدن ومناطق الجنوب والشمال وعن المسيرة التاريخية للتعليم الممتدة إلى السنوات الأولى لدولة الوحدة, سوف يركز التحليل على النظام التعليمي الحالي في الجمهورية.

مدفوعا بحقيقة أن هذا النظام يمثل بناء اجتماعيا إلى حد ما. ومع الاعتراف بأهمية الامتدادات التاريخية لأي نظام , فإن من المناهج ما يسمح بدراسة النظام التعليمي بحركته وسكونه, بأنساقه الفرعية وعناصره, بالتفاعلات والعلاقات القائمة بين مكوناته وبينه وبين النظم الاجتماعية الأخرى مثل النظام السياسي والاقتصادي وغيرهما.

النظام التعليمي وأي نظام اجتماعي هو بناء يتكون على خلفية نسق قيم مركزي - فلسفة وأهداف وتشريعات وفاعلين هم مجموع العاملين ووحدات بنائية أساسية مثل المدرسة وعناصر بنائية داخلها. وأي خلل في أحد الأنساق والعناصر البنائية يؤدي إلى خلل في وظائف النظام كله, لذلك لكي يؤدي النظام التعليمي وظيفته لابد من التأكد من أن البناء الاجتماعي ليس مختلا أو هشا كأن قام مثلا على أسس قيمية غير واضحة أو ملتبسة.

رغم إقرار قانون التعليم العام رقم ( ) لعام 1992م فإن ثمة مسافة زمنية لم تتحدد فيها معالم النظام التعليمي الجديد لدولة الوحدة حتى العام 2000م حين دخل القانون حيز التنفيذ, ومع ذلك لم يؤد تطبيق القانون المذكور إلى تغير جذري في بنية النظام التعليمي, فعلى الرغم من حسم الصراع لصالح النظام التعليمي الحديث الرسمي, فإنه لم يتحرر من إرث النظام التقليدي الموازي سابقا, بسبب أن صراع القوى الاجتماعية التي تقف خلف كل من النظامين لم تطوَ صفحاته ولم يكن الأمر أكثر من مجرد صفقة, فلم تفقد بعد القوى التقليدية التي ناصرت النظام الموازي شبه الرسمي مواقعها المؤثرة في المجتمع - بالعكس حدث انتقال إلى نظام مواز للتعليم العالي وفي كل الأحوال لم يكن نظام التعليم الديني الموازي بأحسن حال من النظام الرسمي بسبب غياب فلسفة وأهداف تعليمية مجتمعية واضحة المعالم. بل غياب فلسفة للدولة في التنمية الوطنية الشاملة التي يمكن أن تشتق منها الأهداف التعليمية.

لقد افتقر قانون التعليم العام إلى فلسفة التعليم وعجز عن تبني أهداف طموحة تلبي رغبة المجتمع في اللحاق بالعصر, بالعكس جاءت الأهداف التربوية في قانون التعليم متناقضة, غامضة, ملتبسة, لم تحدد بدقة من دون مدى زمني محدد, بل هي شعارات رنانة وصياغات فضفاضة, يختلط فيها الوطني بالقومي بالديني دون العناء بإيجاد روابط منطقية بينها وبين الأهداف العلمية والمعرفية الأخرى.. فأهداف مثل الولاء الوطني جاءت متوازية مع أهداف قومية ودينية دون جهد ببيان رابط يوحد بينها جميعا ويدفع فكرة التنافر والتناقض التي لم يستطع أحد أن ينكر وجودها في الفكر العربي المعاصر - مثل الصراع بين التيار القومي والإسلامي, وبينهما والليبرالية واليسارية الخ. وفي الوقت ذاته فإن هدف الولاء الوطني جاء معزولا عن حقوق المواطنة التي يجب معرفتها وترسيخها ابتداء من حق التعليم. أما الثورة والجمهورية والحركة الوطنية اليمنية فلا يمكن ان يتفق يمنيان على تعريف موحد وموقف موحد ورؤية موحدة لكل منهما ..فأي شخصية متناقضة ينتجها هذا النظام التعليمي؟.

أما الأهداف العلمية والمعرفية والمهنية فقد جاءت هي الأخرى عمومية, فضفاضة يصعب على الدولة والمجتمع أن يراقب تحقيقها أو يحاسب الوزارة والمعنيين بالتقصير في انجاز هذه الأهداف أو الانحراف عن مسارها..لأنها ببساطة لا تتحقق على أرض الواقع.وهي لم ترسم للتطبيق, وبالتالي لن تشتق منها السياسات ولن ترسم طريقا واضحا للمناهج أن تحقق ما يريد المجتمع.

أن الأهداف التربوية هي في الواقع أهداف المجتمع, يحدد بواسطتها نوع المواطن الذي يريد والتربية التي يريد بل والإنسان الذي يريد بناءه يمكن أن يضاف لها الآن طموح المجتمع إلى بلوغ المعايير الأساسية للتنمية البشرية.وتتمثل خطورة الأهداف التعليمية أنها تعبر عن طموحات المجتمع وتوجهاته العامة وتوقعاته. كما إن الأهداف التربوية هي الأساس الذي يقوم عليه بناء السياسات والاستراتيجيات والمناهج. فإذا كان هذا الأساس غامضا وممجوجا, فهل نتوقع شيئا آخر غير الفشل؟

وعلى سبيل المثال جاءت الأهداف الدينية والوطنية والقومية والتربوية والعلمية - المعرفية ليس بينها روابط منطقية تزيل اللبس والتناقض عن الأهداف التي صياغتها لم تستبعد التناقض, بكلام أوضح, أن يحقق الوطني والديني التقاءهما مع المعرفي العلمي..علاقة الدين والايدولوجيا الواردة في الأهداف لا معنى لهما إلا بقدر تأكيدهما على القيم التي ترفع من شأن العلم والعمل..كما لم يبذل جهد في توضيح علاقة التراث والخصوصية والهوية بالثقافة المعاصرة.. فالأهداف الواردة في القانون تحتمل من صانعي السياسات والاستراتيجيات والمناهج أن يقرؤوها كل على ليلاه. فأحد هؤلاء يمكن ان يرى في أهداف التعليم هي الحفاظ على التراث والثقافة والخصوصية والانطواء على الذات ورفض المعاصرة بل أخشى أن أقول إن فهم الأهداف قد قاد إلى إغفال دور العلم والمعارف مقابل التركيز على التراث واللغة العربية, إلى درجة أن صدرت فتاوى تجيز الغش في مواد العلوم التطبيقية واللغات جميعها وتحريمها في مادتي اللغة العربية والتربية الإسلامية.

إن الأهداف العلمية والأهداف التربوية ينبغي أن تتساوى وتتوازن على الأقل من حيث الأهمية إن لم تحتل الأهداف العلمية الأولوية. اختلال هذا الميزان يعني أن ينتج النظام التعليمي إما إنسانا غير مفيد ولا منتج .. أو إنسانا منتجا ومفيدا وقادرا على الحصول على مكانة اجتماعية ودورا ملائما لأن التربية بقيم المجتمع لا يجري تشربها فقط في المدرسة بل في البيت والشارع ومن وسائل الإعلام ومحيطه الاجتماعي على وجه التحديد.

إن الأهداف التربوية وهي بهذا الغموض والعموم تجعل من قضية السياسات والمناهج غير محققة لهذه الأهداف.بل تتحول المناهج إلى بناء صورة مشوهة لإنسان الغد, فكل مادة قي المنهج تقدم منفصلة عن الأخرى, ولا يتم توظيف كل مادة في خدمة العلم من خلال إبراز القيم التي تحض على أهمية العلم والعمل المنتج, بل كل مادة تدرس من أجل ذاتها, وتحويل كل طالب إلى متخصص في كل مادة (ينطبق هذا على التعليم الأساسي والثانوي).

وفي عصر المعلومات وتكنولوجيا الاتصال حيث يتطلب أن يركز التعليم على كيفية الفهم والتساؤل وزيادة قدرة الطالب على المناقشة وتقوية التفكير النقدي لديه, يحدث العكس..المناهج محشوة بالمعلومات التي تلقن للطالب تلقينا فينساها أو يحفظها حتى تنتهي الامتحانات فينساها أيضا .. ويستمر الفراغ في الذهن وتصعب على الطالب استيعاب الحجم الهائل من المعلومات وتتعقد كل يوم قضية الفهم حتى يبلغ درجة من اللامبالاة فيدخل الجامعة شاب غير متحمس لم ترسخ في ذهنه من كل سنوات الدراسة سوى القليل من المعلومات وشيء من القراءة والكتابة ويشعر بالعجز عندما يعلم أن رصيده المعرفي لا يعينه على فهم مواد سلسة وسهلة مثل علم الاجتماع.

لا يحتاج الطلاب إلى هذا الحشد من المعلومات وخصوصا مادة التربية الإسلامية مكثفة إلى درجة توحي بأن هدف النظام التعليمي تخريج فقهاء وأئمة مساجد, في الوقت الذي توجد مؤسسات أخرى لتخريج هؤلاء.

وقبل أن ننتهي من موضوع الأهداف التعليمية . حتما سيطرح السؤال: كيف يمكن أن نصوغ أهدافا جديدة كخطوة ضرورية في سياق إعادة بناء النظام التعليمي؟

تحديد الأهداف أمر يتعلق بمدى الطموح الذي نريد بلوغه في هذه المرحلة وفي ضوء أهداف برنامج تنموي طويل الأمد وفي ضوء الفلسفة والقيم التي يؤمن بها النظام السياسي. فقد يلعب التعليم دورا محافظا في إعادة إنتاج المجتمع المتخلف, وقد يلعب التعليم دورا مهما في التغيير الاجتماعي. أهم شيء أن تكون الأهداف واضحة ومحددة من حيث المدى ومن حيث النتائج المتوقعة .أما المناهج فليس الأمر بهذه السهولة. يحتاج إلى خبراء في الاستراتيجيات والمناهج وفي كل التخصصات، يقومون بمسح على مستوى البلد لمعرفة الاحتياجات التعليمية ومستوى الخدمات والمرافق التعليمية ومعرفة اتجاهات القيم وعوامل وظروف كثيرة لا علم لي بها جنبا إلى جنب مع التعرف على ما هو جديد في مجال تكنولوجيا العلوم وطرائق التعليم الحديث وغير ذلك. ويرى بعض الخبراء أن إعداد المناهج يتطلب بين 4 - 5 سنوات على الأقل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى