أدب الأعماق

> أحمد شريف الرفاعي:

> ارتبط الأدب الإنساني بالنفس البشرية منذ الأزل.. وعندما قدم لنا فردية: الإنسان الذي يتصرف بدوافع نفسية انطبعت ة فيها آثار طفولته وصباه ورجولته ومختلف أطوار حياته، أصبح الأدب هو الآخر يقترب من علم النفس اقتراباً شديداً فيأخذ من هذا العلم كل ما فيه من عصارات التجربة.. وإذا نحن نرى النماذج الإنسانية في أدبنا المعاصر حية لا تتصرف بوحي من حركاتها العضوية، بل بوحي من دوافعها النفسية.. وأصبحت هذه الحركات والغرائز تخضع للمحلجات النفسية وتتقيد بها تقيداً ظاهراً ملموساً .

ومنذ أن وجد علم النفس انتقل الأدب إلى طور مديد فأصبح القصيصون يعنون بالمسرح الداخلي في نفس الإنسان.. قبل المسرح الخارجي الظاهر فإذا نماذج تولستوي وتشيكوف وجوركي وويلز زاخرة بالانفعالات النفسية التي تخضع لها تصرفات هذه النماذج وإذا بها تبهرنا وتترك في نفوسنا آثارا لا تمحى.

ولقد اكتشف العلم أن شخصية شهريار في ألف ليلة وليلة مثلاً تلك الشخصية الشاذة التي تشغف برؤية الدم المهراق للعرائس. . لم تكن سوى شخصية مريضة تتصرف بوحي من دوافع نفسية تملى عليها تلك التصرفات وتجعله يقتل كل ليلة امرأة وتريق دم عروس قبل أن ينبلج الصبح ويطلع النهار، وقال العلم إن شهريار لم يكن سوى رجل ناقص الرجولة فقد أهم خصائصها فهاله هذا الفقدان وأراد أن يكذب واقعه فتزوج عرائسه اللاتي قتلهن في الصباح حتى لا يفشين سره الرهيب.

والأدب الخالد هو أدب الأعماق.. أدب الانفعالات الزاخرة التي تحرك النماذج القصصية تحريكاً رائعاً ليس فيه تمثيل ولا افتعال، فنحن نشاهد (انا كاديننا) لتولستوي، امرأة محرومة من الحنان. . لم تجد في حياتها الزوجية سوى القحط الوجداني الذي أدى بها إلى ذلك المصير الحالك فتردت في مهاوي الرذيلة وتحطمت.. وينقلنا تولستوي من جو السخط الطبيعي على هذه المرأة إلى جو الإحساس بالإشفاق نحوها والإيمان بأنها ضحية.. ولذلك (مدام بوفادي)(وغادة الكاميليا)و(نانا).

ونحن أحوج في أدبنا العربي المعاصر إلى نبذ الأشكال الظاهرية والفوضى في الأعماق الإنسانية. . في حاجه لأن ننقل النماذج من المسرح الخارجي إلى الداخلي .. وأن ننقل تقطيب الوجوه إلى انفعالات النفس التي ترسل خلجاتها إلى الوجوه.

إن أدب الأعماق مؤثر.. وواقعي وأدب السطوح زائل وبائد، ومما يبعث على الارتياح أن يوجد بين كتابنا العرب وأدباؤنا المعاصر في البلاد العربية من يؤمنون بهذه الحقيقة ويستوعبون الدور الإيجابي الذي تلعبه القوى النفسية في النماذج الأدبية فنحن نشاهد (جانين مونترو) في (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، والسيد أحمد عبدالجواد في ثلاثية (بين القصرين) لنجيب محفوظ ، والمليونيرحسين شاكر في (شيء في صدري) لإحسان عبدالقدوس صوراً باهرة ولوحات قلمية لا تشبع منها العين. . ولا يرتوي منها الذهن .

وهكذا ينتقل أدبنا العربي المعاصر إلى هذا المستوى الرفيع الباهر، ويساير الركب الإنساني بخطى فنية حية لبعض كتف الزمالة للآداب العالمية الرائعة.

المحرر

العدد 151 في 31 يناير 1959م

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى