قلوب على مدارج الغياب

> د.أحمد عبداللاه:

> آخر شباط، بداية السفر الأخير. في منتصف النهار أحسست بأن الخافق المتعب لن يمهلك سوى دقائق، غسلت يديك من أصابع المختبر ومسحت بنظرة سريعة وجوه رفاق المهنة وبدأت السير ببطء إلى غرفتك.

في ذلك الموقع النائي على هضبة حضرموت، لم يدرك أحد منهم حينها بأنك لن تعود ثانية.

كانت عيناك كسابق عهدها مزودة بنقاء البراءة موشحة بالزهد ووجهك المسالم لم يزل يحمل فطرية الصدق المصفى من حيل المصالح..

مشيت متكئاً على كتلة الألم التي تنهب صدرك، ووزعت ملامحك على الجهات القريبة.

يتقاصر البصر، تذوب الأصوات، ويفقد المكان حيويته اليومية من حولك وبالكاد تفتح باب غرفتك..

لا أحد يدرك الآن كم كنت وحيداً بين تلك الجدران الصماء وأنت تضع جسدك على سريرك.

يمر شريط الذكريات أمامك وأقمار من وجوه من تراهم على رصيف الاحتمال المر، والأرض خارج الجدران صامتة متجمدة مثل كهوف خرساء في ليل بهيم.. تغمض عينيك، ينتهي شريط الذكريات من سرد التواريخ والفصول، يغيب المكان وتتلاشى الأقمار وراء سحابةً داكنةً رطبة.. ويغيب الزمان وتصمت الثواني... ومن هذا المكان تبدأ رحلة الأبدية البيضاء.

موت أليف شديد التواضع والبساطة دونما حاجة إلى عربات الإسعاف النادرة الهادرة وأسِرَة المستشفيات المذلة وكلام الأطباء اليابس كإرشادات السلامة التي تتلى على عمال المناجم العتيقة.

ومثلما كنت في حياتك، لم تطلب شيئا من أحد. مشيت وحيداً بين آخر مكان وقفت فيه وبين سريرك الأفقي دون أن تأتي بأحد من رفقتك، كي يسند قواك باتجاه المجهول، حتى أنك لم تذهب إلى العيادة القريبة ولم تطلب أن يأتوك بطبيب الموقع فلا أحد في تلك الدقائق كنت بحاجة إليه وكأنك كنت تعلم بأن أحداً لن يستطيع معك صبرا..

كانت آخر قدرات حدسك وهو يرسل صرخته الأخيرة عبر نظم التفكير المضطرب الحائر توجهك إلى مكان محدد جداً ومحدود جدا.. إلى سريرك العاري من كل مراسيم العناية لترويض الألم كي تحافظ على كرامة الرحيل الأخير. حملت ذاتك العزلاء من مفردات الحياة اليومية فلا المكان يبدل أبعاده

ولا الزمان يعيد دقائقه ولا أهل أو رفقاء باستطاعتهم أن يسكتوا أجراس الرحيل وهي تجلجل فضاءات الروح..

تنفتح ثغرةً بين عالم الوجود المُسَيج بمحدداته المادية واللامادية والعالم الآخر الذي لا يدرك كنهه وأسراره غير عالم الأسرار..

فلا أنت أنت الآن ولا المكان المكان.. (رحلت ولم تقل شيئاً عن العودة).

وكل ما علمناه عن سيرتك الأخيرة، بأنك كنت تغافل قلبك حتى تتمكن من تثبيت حقوق وظيفتك والتي تأخر استحقاقك لها(......) وبعد ذلك تضمن كل ما تقتضيه تكاليف الحياة والعلاج في أقرب مكان أو بلد حيث يكون الطب فيه مهنة إنسانيه وليس خدمات لطلاء الجدران الأمامية للمنازل المهترئة. كنت تجاهد حتى تصل بعد أشهر قليله إلى شاطئ الأمان، إلى وضع مستقر، لحياة عادية قابلة للاستمرار. سلوك مثالي ومستقيم خلا من كل محاورات القفز إلى المسارات السريعة والطرق المختصرة شأنه شأن كثير من زملائه وكثيرين آخرين. لكنه كان أكثر الناس زهداً وإيثاراً على ذاته حيث لم تمنعه أوجاع القلب من مداواة أوجاع الوظيفة، محافظاً على أسمه العادي الذي لم تهزمه إلتباسات الواقع.. فلم يشتم أحد رائحة المرض في قلبه المكبل خلف قضبان التستر على ما به كيما يصل إلى ما سعى إليه في رحلة العمل الشاق والطويلة حتى قدم قلبه قربان إلى مدارج التحدي والصبر في ملحمة إنسانية كثيفة غير مرئية حتى لأقرب من ساكنهم.

فهل وصل إلى ما كان يعتبره أكثر الأهداف أهميه في الحياة؟ أم أن المهندس صالح علي محمد داحي رحل بينما كان على وشك الوصول لكن قلبه لم يعد مزودا بما يكفي من النبض وجاءت إرادة الخالق لتضع النهاية في أجلها المحتوم؟؟

عقدين من الزمن وست سنوات وشهور معدودة حتى آخر يوم في شباط قطع المغفور له بإذن الله رحلة عمله في قطاع النفط.. مع كثيرين جداً من الزملاء حتى رحيله المفاجئ الذي فطر قلوبنا وقلوب من عرفه.. وداعاً لصمته الجميل وصدقه وتواضعه الذي يخفي تحته عزة الرجولة وكبرياء العظماء في زمن كهذا. رحمه الله وغفر له ولنا.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى