الجابري : أخضر جهيش مليان ..

> فضل النقيب:

> لكأنما كان الشاعر الكبير أستاذنا أحمد غالب الجابري يصف قلبه ومايحتويه من عالم مسحور بدهشة طفل يكتشف الكواكب والنجوم لأول مرة، حين كتب أغنية «أخضر جهيش مليان حلا عديني.

بكر غبش شفته الصباح بعيني». هذه الأغنية لاتشبه أحداً ولايشبهها أحد سوى الجابري نفسه برقّته وكرمه وغناه الروحي والتسامح الذي يظلله كأنه غمامة تسير معه حيثما سار بأجنحة الحب ونعومة المطر ونداوة العشق. وحين غناها فناننا الكبير محمد مرشد ناجي- أطال الله عمره - دخلت كل قلب وترددت على كل شفة وتلونت بكل الألوان المطرزة بعواطف الناس وحبهم للحياة. الأسبوع قبل الماضي قرر قلب الجابري رعاه الله، أن يداعبه على غير موعد فنقل إلى مستشفى اليمن الدولي بتعز حيث رعاية آل السعيد الذين يقدرون المبدعين، وقد هاتفني صديقنا المشترك الأستاذ محمد عبدالودود طارش فشعرت بأسى عميق خفت منه على قلبي الواهن الذي تعرض لعدة نوبات، فهو يدرك معنى قول أبي نواس : حامل الهوى تعبُ/يستخفه الطربُ/إن بكى يحق له/ ليس مابه لعبُ. إلى ذلك فإنني أحب أحمد الجابري وأرى فيه منارة من منارات اليمن المضيئة ونجماً من نجوم المدينة التي ولد وترعرع فيها ودرّس فيها تلاميذ كثراً يذكرونه بكل الحب والإعجاب وقد كتب لها بصوت أحمد قاسم المترع بالشجن :

«عدن .. عدن .. ياريت عدن مسير يوم .. شسير به ليلة ماشرقد النوم .

شوقت له .. كم لي سنين وشصبر .. من يوم سرح قلبي وقلت ماشقدر»

متى تكرم عدن عندليبها وتحمله على الرموش، أليس لها قلب أم؟

نعم.. لن يقدر أحمد الجابري على فراق عدن وبالأخص التواهي وبحرها وقد سبق لي أن كتبت وتحدثت مع كثيرين عن الظروف الصعبة التي يمر بها أحمد والتي دفعته رغماً عنه إلى السكن في الراهدة حيث لابحر ولا رملة ولا أصوات ونفير البواخر يسمع في نصيف الليل. آه ياعدن .. لكم لوّعت من قلوب وكم سحرت من أرواح، وكم تيّمت من عشاق، تسكبين الحنان حتى الثمالة ثم تسحبين البساط ليسقط محبوك صرعى لكأنك الدنيا في إقبالها وإدبارها ونحن بنو الزمان الذي قال عنه أبو الطيب :

أتى الزمان بنوه في شبيبته

فسرّهم وأتيناه على الكبر

أناشد بكل المحبة والإجلال الأخ الرئيس علي عبدالله صالح، الذي له أيادٍ بيضاء مع مبدعي اليمن وأقمارها وبلابلها الصادحة أن يشمل أستاذنا أحمد الجابري بالرعاية التي يستحقها، وذلك في شؤون مرضه ومعاشه وسكنه ذلك أنه من المتعففين، فقد عاتبني عتاباً مراً ذات مرة حين كتبت عن أحواله ووعدته أن لا أفعل مرة أخرى ولكنني اليوم أحنث بوعدي من أجل اليمن واليمنيين الذين يحبون أحمد الجابري، عاشق اليمن الذي غناها بألحان وصوت عصام خليدي :

صباح الخير ياوطني بك الأرواح لم تهن

فأنت الحب في صنعاء وأنت الشوق في عدن

إذا غنيت في ولهي أعاد الرجع ذو يزن

فكنت الصب لاتعجب ومثلي عاشق اليمن

كما وقد يكون لمحافظ عدن الأستاذ د. عدنان الجفري كرّة فارس، أو ليس الجفارية أو الجفارنة ممن يعرفون مقامات الناس؟

لدى أحمد الجابري قدرة مذهلة على تقمص أنماط الغناء الشعبي اليمني واللهجات ومايختلج في نفوس البشر في البوادي والحواضر اليمانية وهي صفة وموهبة لم يحزها شاعر آخر ممن عرفناهم وأحببناهم على حد علمي، وربما كان أقرب مثال لذلك أغنية «على أمسيري» بصوت مطرب كل الأجيال والأعمار حبيبنا «أبو علي» المرشدي :

على امسيري على امسيري/ ألا باسم الله الرحمن

على امسيري على امسيري/ ولامؤذي ولاشيطان

على امسيري على امسيري/ تخطي في دراج أهلش

ألا يامرحبا بش وبأهلش / وبالجمل ذي رحل بش

كله كوم، وتحية الجمل كوم، ذلك أنه مامن شاعر غير أحمد يستطيع أن يجعل المحبة شائعة كالماء والهواء. ثم، وياللعجب، إن كاتب هذه الأغنية البدوية من «عيال» التواهي الذين كانوا ينعون على عيال الشيخ عثمان خشونتهم ويقولون عن أنفسهم أنهم يصيدون الأسماك بالصّفير بينما الشيخيون يسبحون من أجل الاصطياد، فلا يخرجون بطائل... ماعلينا .. فقد تساوى الناس في زماننا بعدما أصبح الميناء قفراً والقفر جمراً والحمد لله الذي لايحمد على مكروه سواه، و «هربوا جا الليل» التي عبر بها الجابري بحنجرة أحمد قاسم عن مثل هذا المعنى : والله ماروح/ إلا قاهو ليل/ واعشي واصبح/ وابن عم الليل/المطر يسكب/ مويفيد نصرب/ والذئاب تقرب/ هربوا جا الليل. الجابري أيضاً شاعر فصحى متمكن، ولكنه هزم شعره الفصيح بشعره الغنائي العامي. وإليكم هذا المقطع الفصيح بصوت أيوب طارش الحزين :

ياعاشق الليل ماذا أنت تنتظرُ / نامت عيون العذارى واختفى القمرُ

تُسامر النجم والأطياف حائرة / تحوم حولك ماتدري فما الخبرُ؟

عرائس اللحن ضاعت أين سامرها / وأين منها الهوى والليل والوترُ

أمست لياليك حيرى لايحركها / شوق ولاموعد يأتي ولاخبرُ

سلمت يا أحمد، وكما كتبت إليَّ في مرضي تحرضني على الصمود وعدم رفع الراية البيضاء أحرضك كذلك .. كل المحبة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى