فرنسية تحطم أسطورة صلاح الدين الأيوبي!

> «الأيام» معاذ محمود:

> نظم معهد العالم العربي في باريس الخميس 12 مارس ندوة بعنوان (صلاح الدين.. الرجل.. والأسطورة)، والندوة عقدت بمناسبة صدور سيرة ذاتية جديدة لصلاح الدين بالفرنسية لآن ماري إيديه أستاذة تاريخ القرون الوسطى بجامعة رينس بفرنسا.

استُهلت الندوة بالإشارة إلى الدور المحوري الذي لعبه صلاح الدين في مرحلة تاريخية حاسمة، هذا الدور هو الذي أدى إلى خلق أسطورة صلاح الدين في الشرق كما في الغرب، وهو ما يجعل المهتم بسيرة صلاح الدين يتساءل عن الحقيقي والأسطوري في مشواره.

سيرة جديدة

ثم بدأت (إيديه) بتوضيح الأسباب التي دفعتها إلى كتابة سيرة جديدة لتلك الشخصية التي قتلت بحثا، فهناك كمية مهولة من الدراسات والأبحاث التي نشرت عن مشوار صلاح الدين وإنجازاته العسكرية، بعضها مفعم بالرومانسية، وبعضها إشكالي، والكثير منها علمي على مستوى عال من الدقة والأمانة التاريخية، غير أنه لا توجد سيرة كاملة حديثة لصلاح الدين، سيرة تحاول الفصل بين ما هو أسطوري وما هو حقيقي. سيرة توضح كيف كان أسلوبه في الحكم، وما هو الوزن الذي كانت تشكله الولايات المختلفة في دولته، وموقفه من العنف وتبريره له، أو حتى كيف كانت طفولته؟ فهناك نقص كبير في معالجة كل تلك الجوانب، وهو ما دفعها للشروع في هذا المشروع الطموح.

السؤال الذي طرح نفسه بعد أن قررت البدء في هذا المشروع هو كيفية تناول شخصية بحجم صلاح الدين، وطبعا لابد من الاعتماد على المصادر التاريخية، وهي وفيرة جدا في حالته، كي نتمكن من تحليل مواقفه وقراراته طبقا لظروف عصره، فإذا تناولنا العنف مثلا، نرى أن الفترة التاريخية التي عاش فيها صلاح الدين كانت تتسم بالعنف الشديد الذي كان أحد وسائل ترسيخ شرعية الحكم، كما كان يلجأ إليه كثيرا حين الشعور بأن الإسلام مهدد، وصلاح الدين لم يكن استثناء.

ما يهم هنا ليس محاولة إصدار حكم: هل كان صلاح الدين عنيفا أم لا ولأي درجة؟، بل تحليل مبررات لجوئه للعنف والنظر لتلك الأفعال من خلال طبيعة العصر وأحكامه دون الوقوع في فخ الحكم الارتجاعي على التاريخ.

ثم تعطي المؤلفة مثالا على خصائص العصر من خلال الإشارة إلى التأثيرات التي تعرض لها صلاح الدين، والتي أسهمت في تكوين شخصيته، فاستحضار صورة صلاح الدين في الخطاب العروبي تكاد تنسينا حقيقة أنه كردي في الأساس.

غير أن صلاح الدين كان يعيش في عصـر تختلط فيه التأثيرات العربية والتركـيـة والفارسية، وبالتالي لا يمكننا القـول إن صلاح الديـن كـان عربيا أو كرديا؛ لأن مفهـوم العـروبة نفـسه لم يكـن موجـودا في عـصره.

وأوضح دليل على التأثيرات المتنوعة التي عاشتها عائلة صلاح الدين هو أسماء إخوته، فصلاح الدين اسمه عربي (يوسف)، وأخوان له يحملان اسمين فارسيين (توران شاه، وشاه شاه)، وأخوان يحملان اسمين تركيين.

خلق الأسطورة

النقطة الثانية التي اهتمت (إيديه) بتناولها في كتابها هي الصورة التي رسمتها المصادر المختلفة لصلاح الدين، فالكتابات عنه بدأت خلال فترة حياته عن طريق المقربين منه كالقاضي الفاضل مثلا، وصورته بعض تلك الكتابات بصورة ترفعه في بعض الأحيان إلى مصافي الأنبياء وتقارنه بهم، كيوسف عليه السلام مثلا: فصلاح الدين يحمل نفس الاسم، وهاجر إلى مصر، ثم لحقت به عائلته تماما كما حدث مع يوسف عليه السلام.غير أن تلك الكتابات يجب التعامل معها بحذر؛ لأنها كانت متأثرة بقربها من صلاح الدين، وبالتالي كانت حريصة على إظهاره كنموذج للسلطان العادل لترسيخ شرعيته أمام منافسيه.

واستمرت الكتابات عن صلاح الدين بعد وفاته خصوصا في القرن الثالث عشر، حتى ظهرت أسطورة صلاح الدين في الغرب قبل الشرق، فالكثير من الكتابات الأوروبية أظهرته في صورة قريبة من صور القديسين، بل إن بعض من كتبوا عنه ذهبوا إلى القول بأنه تمسح على سرير الموت، لتكتمل الأسطورة.

أما في الشرق المعاصر، فأسطورة صلاح الدين دائما ما تستحضر لأهداف سياسية، وللدفاع عن أجندة وقضية معينة، فنرى تركيز مناهج التعليم على تلك الشخصية، ووضعه على طوابع البريد، بل إن الأمر وصل إلى محاولة بعض الزعماء التماهي مع تلك الشخصية الأسطورية كما رأينا في فيلم «الناصر صلاح الدين».

الكتاب في الميزان

ثم انتقل الميكروفون لفينيسا فإن رينترغام، المؤرخة المتخصصة في بغداد العصر السلجوقي والأستاذة بمعهد اللغات الشرقية بباريس التي أثنت على الكتاب، (فإديه) أولت عناية كبيرة لحياة صلاح الدين اليومية ومعاملاته مع محيطة رغم قلة المصادر التي تهتم بهذا الجانب.

كما استطاعت (موضعة) سيرة صلاح الدين في سياق القرن الثاني عشر الذي كانت له سمات خاصة جدا ككثرة الدويلات والتنافس بينها في العالم الإسلامي، والموزاييك العرقي والديني والطائفي.

كما أن (إيديه) لا تقدم في كتابها مجرد سرد تاريخي للأحداث، بل تتناول بشكل مفصل كل ما هو وراء الحدث من مفاوضات ومساومات.

وأضافت رينترغام أن الكتاب استطاع توضيح مكانة كل أقليم في دولة صلاح الدين خصوصا الشام ومصر فهما تحملان العبء الأكبر في تلك الحرب التي خاضها صلاح الدين وحيدا؛ حيث لم ينصره لا الفاطميون في الغرب ولا العباسيون في الشرق.

ووفقا لميشيل بالار، أستاذ تاريخ القرون الوسطي في السوربون، ومؤلف كتاب (حول الحملة الصليبية الأولى)، فإن الكتاب يتيح للقارئ الغربي التعرف على جوانب من مشوار صلاح الدين الذي قلما يتوقف عندها الكتاب الغربيون، فمعظم الكتابات تختزل حياة صلاح الدين في مرحله قتاله ضد الصليبيين دون الإشارة إلى فترة الإعداد لتلك الحرب.

فطوال 15 سنة، سقط قتال الصليبيين من على رأس أولويات صلاح الدين ووجه جهاده ضد الدويلات المسلمة في الشام والعراق لتوحيدها ولترسيخ دعائم دولته.

كما أن مشوار صلاح الدين لم يكن سلسلة من الانتصارات والنجاحات بلا انقطاع، فقد واجه الكثير من المشاكل والمصاعب والعقبات، بل والهزائم كذلك. كما أنه ارتكب العديد من الأخطاء التكتيكية والإستراتيجية خلال حروبه، فجيشه مثلا لم يكن نظاميا بمعنى الكلمة، وكانت السيطرة عليه مهمة شاقة جدا؛ بسبب التنوع العرقي للجنود، كما مثل ضعف أسطول صلاح الدين مشكلة كبيرة حينما بدأ قتاله ضد الصليبيين.

ويتفق (بالارد) مع تفسير (إيديه) لتكون أسطورة صلاح الدين في الغرب التي وصلت إلى حد ادعاء بعض الكتابات أنه تنصر على سرير الموت: فمن جهة، كانت هناك رغبة في التخفيف من وطأة هزيمة الصليبيين في المشرق، وإظهار صلاح الدين بتلك الصورة النبيلة وإسباغ هالة القديسين عليه يخفف كثيرا من وقع فشل الصليبيين.

ومن جهة أخرى، رسمت أسطورة صلاح الدين، التي تشكلت أساسا في القرن الثالث عشر الميلادي، بالتضاد مع حكام المماليك، خصوصا الظاهر بيبرس، الذين ينظر إليهم على الضفة الأخرى على أنهم حفنة من المحاربين المرتزقة الأجلاف البعيدين عن كل مظاهر التمدن والتحضر.

وأنهى خالد كشير، أستاذ تاريخ القرون الوسطى بجامعة تونس، الندوة، بالثناء على (آن ماري إيديه) التي استطاعت من خلال عملها أن تفكك الأسطورة، وتعيد أنسنة صلاح الدين من خلال تناول حياته اليومية الطبيعية، بعيدا عن ميادين القتال والحرب.

ناقد مقيم في فرنسا

عن (إسلام أونلاين)

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى