قبل 87 سنة.. الزعيم الوطني المصري سعد زغلول منفيا في عدن

> «الأيام» محسن عبده قاسم :

> يوم الثلاثاء 24 يناير 1922م مع وقت الأصيل والشمس تسحب أشعتها نحو المغيب كانت الباخرة الحربية «فرنسو فردينان» التابعة للأسطول البريطاني ترسو في ميناء عدن وعلى متنها زعيم الحركة الوطنية المصرية سعد زغلول باشا رئيس حزب الوفد وعدد آخر من قيادة الحزب.

هم : مصطفى النحاس باشا وفتح الله باشا بركات وعاطف بك بركات ومكرم عبيد وسينوت حنا بك وشخص سادس هوعبدالله أفندي محمود السكرتير الخاص لسعد زغلول الذي قام بتدوين مذكرات رحلة المنفى ضمها في كتاب سماه «مع الرئيس في المنفى في عدن - في سيشل .. في جبل طارق » صدر عن المكتبة التجارية المصرية سنة 1923.

سبب نفي سعد زغلول

شهدت مصر سنة 1921 موجة عارمة من الغضب جراء السياسة البريطاني التي كانت تماطل في منح مصر استقلالها التام غير المشروط ... جرب الإنجليز عددا من الأساليب الملتوية في محاولة لامتصاص غضب الشعب لكن دون جدوى فلجأ لقمع حركة الجماهير بالعنف وإعلان حالة الطوارئ فجرى اعتقال قادة الحركة في مقدمتهم سعد زغلول باشا وتقرر إبعادهم إلى عدن ثم سيشل فجبل طارق .

لحظة الوصول إلى الميناء

يصف المؤلف لحظة الوصول: «عندما وصلنا عدن لاحت لنا من بعد صخورها سوداء جرداء قاحلة انتشرت فوقها بيوت أشبه بأكواخ على مسافات متقاربة ومتباعدة ما أن قربنا منها حتى اشتدت الحرارة وضاقت الأنفاس فهرعنا إلى سطح السفينة طلبا لاستنشاق الهواء..

اجتمعنا على حاجز الباخرة مرسلين النظر ومستطلعين كنه ذلك المقام الجديد كلما اقتربت الباخرة منها تبدو للعين بوضوح أكثر حتى أصبح في الإمكان رؤية الطرقات والنباتات القليلة رأينا من بعد بناية الجمرك ودرو الحكومة وبعض الأبنية الأخرى منها نادٍ لضباط الجيش والبحرية وكليها وإن لم تكن كبيرة وبدت لنا كأكواخ لكنها كانت جميلة المنظر يرى فيها آثار العناية والاهتمام واستطعنا أن نرى أيضا حديقة صغيرة كما استلفت نظرنا واستدعى سمعنا نور وأبواق بعض السيارات التي كانت تسير رائحة غادية وأمكني تعرف نوعها فهي نوع الفورد الصغير الذي يفضل استعماله كثيرا في تلك البلاد ذات الطرق الضيقة والمنعطفات الصغيرة.

صور من الميناء

يصور الكاتب مشاهداته للحركة في الميناء «اقتربت من الباخرة قوارب عديدة وهي تختلف عن قواربنا النيلية بكونها أضيق منها عرضا وأطول منها كثيرا يديرها قوم من أهالي عدن وهم نحاف الأجسام سود الوجوه لايرتدون لباسا سوى ثوب من التيل الأبيض أو البغته يغطي النصف الأسفل من أجسامهم وبعضهم يترك النصف الأعلى عاريا والبعض يغطيه بشئ أشبه بالفوط التي تستعمل في حمامات السوق بمصر، كانت تلك القوارب بعضها تحمل فواكه وحوائج للبيع والبعض جاء لنقل الركاب إلى الميناء وأخذوا بأصوات كل ينادي على سلعته بألفاظ عربية، ولكن لم نستطع فهم مايقولون.

لما ألقت الباخرة مراسيها اقترب إليها لنش وصعد منها جندي من جنود البوليس يتأبط أوراقا وهو يشبه جنودنا في مصر من حيث لباسه إلا أن هذا حافي القدمين يميل إلى السواد كثيرا ويمتاز بنحافة الجسم واتساع العينين وسار قاصدا غرفة القبطان بعد قليل جاءنا الكولونيل وأخبرنا أنه لابد من المبيت الليلة في الباخرة حتى صباح الغد لأن المنزل المعد تهيأته لم يتم بعد، فبتنا وأمامنا عدن بصخورها السود المظلمة والفكر مشغول بمصر وسهولها الخضراء اليانعة».

من الباخرة إلى اللنش الطرابيش تثير الانتباه !!

يمضي المؤلف: «صباح اليوم التالي بعد تناول الطعام جاء الكولونيل معه ضابطان عرفهما بالرتب أحدهما برتبة كابتن والآخر ملازم صافحا الرئيس وصحبه وكانا مكلفين اصطحابنا إلى محل إقامتنا.. تبعناهما بعد أن ودع الرئيس وصحبه الكولونيل وقبطان الباخرة الذي أظهر رقة ووداعة واهتماما كبيرا براحتنا مدة السفر.

ركبنا اللنش بينما كان البحارة والهنود يشيرون إلينا إشارات التحية وعلى وجوههم علامات التأثر والبشر، سار اللنش يمخر عباب الماء مررنا في طريقنا بمراكب حربية كبيرة وأخرى شراعية يبلغ حجمها نحو 5 مرات من حجم ذهبياتنا النيلية وملونة بألوان بديعة ونقوش جميلة الصنع بديعة المنظر، وكانت طرابيشنا المصرية تستلفت أنظار من نمر عليهم ممن بالقوارب والمراكب الشراعية من أهالي عدن، كانوا ينظرون إلينا ونحن نمر بهم بسرعة ويحملقون إلينا بشدة، لكن لم يخاطبنا أحد أو يجرؤ أن يشير إلينا، ومررنا كذلك بمخازن الفحم وأحواض التصليح والترميم، كنا نسير محاذاة الشاطئ بسرعة كبيرة حتى بعدنا عن المباني وتجاوزنا الجهات المأهولة فمررنا وسط صخرين مرتفعين في الماء وظهر لنا من بعد بيت أشبه بحصن على صخر مرتفع جدا عن سطح البحر فقلنا ربما كان ذلك وجهتنا لأننا لم نر قربه بيوتا غيره وسألنا الضابط فأنبأنا بأنه هو».

من الماء إلى اليابسة قطار وعربة يجرها جمل

بعد برهة رأينا لسانا ممتدا في البحر وباخرة رافعة لنقل البضائع من القوارب إلى الرصيف، وقف على حافة اللسان عشرة جنود إنجليز مدججين بالسلاح، وما أن اعتدل اللنش ورسى على ذلك اللسان حتى قفز الضابط وساعد الرئيس في الانتقال، ثم صعدنا في إثره ومررنا وسط الجند الذين انقسموا 3 أقسام يمين ويسار وخلفنا.

فرشت أرض اللسان بالقش وقراميد الخشب فسرنا به نحو نصف ميل ثم عرجنا على اليسار وتخطينا شريطا للسكة الحديد ومر بنا إذ ذاك قطار صغير كقطارات الترامواي، لكنه يسير بالبخار بين عدن ومكان قريب منها يسمى الشيخ عثمان وهو يشبه في نوع ما قطارات الترام في مصر غير أن ذاك لعبت به يد البلي والإهمال، رأينا أيضا عربة يجرها جمل تحمل برميلا كبيرا كذلك المستعملة في مصر قديما لحمل الماء يسير خلفها رجل من الأهالي حافي القدمين عاري الرأس ائتزر بثوب أبيض وهو يصيح بالجمل صياحا منكرا ليشجعه على السير ثم مررنا بطريق ضيق بين جبلين وألفينا طريقا آخر عظيم الارتفاع يصعد إلى أعلى وقف في أسفله أربعة من الأهالي يلبسون ثيابا افرنكيه كاكي كثياب جنود الجيش المصري يحملون نقالة ذات غطاء مرتفع قليلا».

سعد زغلول محمولا في نقالة إلى الحصن

«وقف الكابتن ايستيل وطلب من الرئيس أن يرقد في النقالة ليصعدوا به ذلك المرتفع الشاق، فاشمأزت نفوسنا ونفرنا من رؤية النقالة، ولكن نظرة أخرى إلى المرتفع الهائل جعلتنا نرى ألا حيلة إلا في أن يركبها الرئيس لتوفير مشقة الصعود عليه فرقد بها وحملها الجنود على الأكتاف وساروا وسطنا بينما نحن صعدنا على الأقدام استغرق ذلك الطريق الصاعد نحو العشرين دقيقة انتهينا في آخره إلى البناء الذي أعد لسكننا».

أوصاف بيت أشبه بحصن على صخر

ومقصود به المبنى الواقع فوق جبل حديد ورد عنه تعريف في ص 51 من كتاب العقبة للأستاذ عبدالله محيرز«.. حصن سمي بحصن جبل حديد كان مقرا لقيادة معسكرات البرزخ ثم صار معتقلا احتجزت فيه الحكومة البريطانية زعيم الثورة المصرية سعد زغلول باشا في 1922 ثم مدرسة لأبناء الشيوخ ».

لكن وصف الحصن من الداخل ورد في كتاب «مع الرئيس في المنفى»:

«هو مبنى على شكل الحصون يتكون من طابقين أعد الأول منهما لإقامة الضباط والجنود المكلفين حراستنا والثاني منها لإقامتنا ورأينا بقربه بناية ذات غرف متجاورة نحو الست حجرات مخصصة للجنود الوطنيين الذين يساعدون الإنجليز في المراقبة والحراسة وبها يقيم الخدم أيضا، صعدنا السلم وانتهينا إلى بهو كبير الاتساع ينقسم إلى قسمين بواسطة ذلك السلم، فالقسم الأيمن يحتوي على 9 غرف وحمام والأيسر على 3 غرف وحمامين.

وقد أعد القسم الأول السكن الأعضاء والثاني لإقامة الرئيس وسكرتيره وبه أيضا غرفة المائدة التي كانت على يسار الصاعد من السلم وضعت في وسطها مائدة كبيرة مستديرة حولها 6 مقاعد وتدلى فوقها من السقف «كلوب» يعطي نورا قويا وبداخله غرفة أخرى أصغر منها أعدت لتهيئة الطعام وبجانب غرفة المائدة غرفة متسعة في وسطها سرير كالذي يستعمل في المستشفيات وفرشت أرضها بقطع من البساط البسيط وبها منضدة صغيرة وكرسيان كبيران وبجانب السرير طاولة صغيرة عليها شمعدان صغير، تلك الغرفة التي أعدت للرئيس وكان بداخلها غرفة أخرى صغيرة ليس بها شيء من الآثاث سوى سرير وكرسي أعدت للسكرتير.

وهكذا كان آثاث باقي الغرف غير أن اثنين منها وضع في كل منهما سريران أحدهما كانت لفتح الله باشا وسينوت بك، والآخرى للأستاذ مكرم ومصطفى النحاس، وثالثة صغيرة لعاطف بركات بك، لايزيد الآثاث عن سرير منضدة وكرسي لكل واحد وكان بها أيضا قطع صغيرة من الأبسطة.

وبالجملة فقد كان المكان من حيث آثاثه كمنازل الطبقة المتوسطة في مصر وفيما عدا ذلك كان «الفراندا» كراسي كبيرة عديدة ومنضدة تستعمل للعب الورق والكتابة، وكانت هناك4 غرف صغيرة أيضا أعدت كحمامات أحدهما خاصة بالرئيس وحده وأخرى بفتح الله باشا وسينوت بك وثالثة بالأستاذ مكرم والنحاس بك وعاطف بك ورابعة للسكرتير، بداخل تلك الحمامات توجد المراحيض أيضا كانت عبارة عن جردل يوضع عليه شبه كرسي من الخشب في ركن من الغرفة وفي الركن الآخر مصطبة مربعة تبلغ مترا مربعا مرتفعة عن الأرض نحو قدم وبها حوض من الصاج يسع الإنسان جالسا وإبريقان لحمل الماء ولفمانو بسيط جدا لغسل الوجه.. الاستضاءة كانت بفوانيس تضاء بزيت البترول عدا غرفة المائدة التي كانت تضاء بمصباح كبير.

سعد زغلول أجاد الفرنسية وفوق جبل حديد تعلم الإنجليزية !!

معروف عن الزعيم سعد زغلول أنه كان يجيد الفرنسية بطلاقة استغل شيئا من وقته أثناء فترة احتجازه بعد أن كان يأخذ دروسا في اللغة الإنجليزية التي لم يكن يتقنها جيدا وذلك مع مكرم عبيد الذي كان ضليعا بها.

خبر غير سارمن رويترز!!

في مطلع فبراير 1922 جرى الإفراج عن الوطنيين المعتقلين في قصر النيل بالقاهرة فأخذ الأمل يدب في قلب سعد زغلول وصحبه أن أزمتهم قربت على الانفراج وأن ساعة الرجوع إلى مصر قد حانت حتى أن الزعيم سعد مال كثيرا في الاعتقاد أن أمر الأفراج قد صدر وسلطات عدن تعلم به لكنها لم تنبئهم بذلك.. لكن سرعان ما تبددت الآمال عند ما حضر أحد القادة الإنجليز وبيده تلغراف رويترز مضمونه نقل سعد زغلول إلى منفاه الجديد في سيشل .

وفي الأول من مارس من الساعة الرابعة عصرا تم ترحيل سعد زغلول ومكرم عبيد والسكرتير الخاص لسعد على متن المدمرة الحربية «كليما تس» ورحل الباقون لاحقا .

أحبه القمندان أغلى من النحاس ومكرم!!

في العام 1937 نظم أمير شعر الغناء اليمني أحمد فضل القمندان قصيدته الغنائية «حالي ياعسل نوب» ومطلعها :

ياعاني تجمل سلم لي على الأحبة جم

بالشقر الذي حمحم

بالله قلهم مهما طال البعد عنهم ثم

أن الوصل شي محتم

باسمره معاهم مابا النحاس أو مكرم

هات لي خبرتي وسلم

وهو مايؤكد محبة القمندان وشدة ارتباطه بأحبته الذين يراهم شيئا غاليا حتى من مصطفى النحاس ومكرم عبيد اللذين تحملا مسؤولية قيادة حزب الوفد بعد رحيل سعد زغلول باشا، فالنحاس صار رئيسا فيما كان مكرم أمينا لسر الحزب، وفي فترات لاحقة شغل مصطفى النحاس رئاسة الوزراء في مصر .

رحمة الله على الأستاذ عبدالله

من السمات التي تحلى بها طيب الذكر الغائب الحاضر الأستاذ عبدالله أحمد محيرز أنه كان ذا اطلاع واسع في علوم التاريخ والرياضيات وصاحب إلمام كبير بشتى أنواع المعرفة وله مكتبة غنية بالكتب والمراجع وقد أسعدني الحظ أن أعمل موظفا وبقربه لسنوات طوال، وكثيرا ما كان يحثني على القراءة وذات يوم أعطاني نسخة مصورة من كتاب «مع الرئيس في المنفى في عدن في سيشل في جبل طارق » قائلا : «ربما يفيدك ويوسع معلوماتك .. وجاء اليوم الذي استفدت فيه من عطية أستاذي عبدالله محيرز (رحمة الله عليه ).

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى