قصة قصيرة .. مدعوس

> «الأيام» عبدالله قيسان:

> يتميز مساء ليلة الجمعة عن المساءات بقليل من الحيوية كونه يأتي من استرخاء طويل عن العمل، يبدأ يوم العطلة الأسبوعية .. الخميس، والخميس أنيس، تنجز فيه المواعيد، وتلتقي فيه الأحبة، وتزور الأقارب بعضها بعضاً.

لهذا يكون مساء الجمعة، محطة استعداد للعمل وتهيئة لصباح يوم السبت .. مطلع الأسبوع .. الساعة تقترب من العاشرة والنصف مساء، كان (أبو علي) قد سبق زوجته إلى غرفة النوم، وأخذ يستمتع ببقايا سهرة الخميس المنبعثة من الملابس النسائية الملقاة على (المشجب) فتثير في نفسه رغبة في الاسترخاء، وتشعل العواطف في جسمه من جديد .لكن زوجته تقطع عليه متعة التأمل بهموم العمل في المدرسة والبيت، فهي دائماً تعتبر الحصة الأولى إحراجاً لها، فتستيقظ مبكرة وبالكاد تطبخ الشاي وحبتين (ملوح) على عجل وماتبقى من الوقت تستعد فيه للخروج ثم تترك حسم الأمور الأخرى، ولكن بعد أن تعطي تلمحيات يفهمها (أبو علي) من حركاتها وكلامها ونظراتها الصارمة :

- البيض والفاصوليا في الثلاجة !

- ياشخية كم حبة جبن تكفي.

- التغيير مليح .. جبن جبن غثينا.

التقطت شنطة يد كانت على الطاولة وخرجت تاركة البيت والصغار في رعاية الأب المسكين ، الذي سلط ربنا عليه هذه المرأة الشريرة، وكأنه يريد أن ينتقم لأمه التي كان يبهذلها ويتدلع عليها مستغلاً حبها له ، لأنه وحيدها بين ثلاث بنات .. ولكن الله منتقم جبّار .. تململ (بو علي) قليلاً في الفراش ونهض .. في المطبخ شرب كوباً من الشاي ، وهو يتأمل (الملقى) بعد أن حصل على البصل، وحين بدأ يقطعه عطس ثلاثاً وسألت دموع العيون ، فتحمد وتلفت ولم يجد من يترحم عليه ، كان ابنه واقفاً إلى جانبه، أما أخته الصغيرة فلم تزل في الفراش .

أقل من نصف ساعة وقد أنهى مهمته في المطبخ، حاول أن يأكل شيئاً، لكن رائحة البصل والدخان سدتا نفسه وأفقدتاه الشهية .. سكب له كوباً آخر من الشاي ، ثم غير ملابس الصغار وفتح أفلام الكرتون.. في التاسعة وقليل طُرق الباب ، فهرول الصغيران لاستقبال (ماما)، وضعت بعض الأوراق وكتاباً على الطاولة .. خلعت عباءتها واتجهت صوب المطبخ ، ثم قدمت الإفطار.. كان (بو علي) يجلس مقابلاً لها ولم تمتد يده بعد إلى الطعام .. بدأت هي أول لقمة ووقفت بحلقها ، وجحظت عيناها وأخذت تبحلق في وجهه غاضبة، فارتعد من الخوف، فقفز وأحضر الماء :

- اشربي .. اشربي مالك.

-شي كنت تملح بقر (وأخرجت اللقمة من فمها وكادت ترميه بها).

- الملح مشكلتي .. ما أضبطه.

- بطرف الملعقة .. كم علمتك .. ماتخلص نيتك للعمل.

تركت (الخصار) وأكلت خبزاً مع الشاي وأخذت ترمقه بنظراتها وتتوعده، و(بو علي) يتحاشاها بمداعبة البنت الصغيرة، ثم راجعت نفسها ، لأنه غير ممكن يفعلها بقصد، فهي تعرفه كما نقول دائماً: (خبز يدي والعجين) وتعرف أن (كلمة توديه وكلمة تجيبه) ومع هذا مايرى عين الرضى، حتى عندما يسلمها راتبه، وتوزعه أمام عينه، لا يستطيع السؤال عن راتبها : (ذا يروح هكبات .. مستقبل الأولاد) وكم تمنى أن يرد (وأنا أين مستقبلي )، ولكن .. آه من لكن !

في طريقه إلى السوق لفت الانتباه .. اليوم (بو علي) مشيته غير .. افتعال حركات .. وخفة دم .. ويطيل النظر في الرايحات والجايات ، وكأنه يبحث عن شيء .

وعلى مسافة ليست بعيدة ، وفي الاتجاه نفسه كان صاحبه (أحمد الشاقي) يرافقه زميل آخر ، يراقب حركة (بو علي) ويرد على زميله ضاحكاً :

- بو علي اليوم رايق .. عندك على (فرفشة) وحركات !

- يأخذ حريته برع.

- كيف ؟

- في البيت يمشي نظام (ورمى السجارة ودعسها بقوة كي توضح الفكرة).

- إلى هذا الحد !

- وأكثر ..

وفي المقيل، حيث اصطف الحاضرون ، كان كل فرد يأخذ مكانه حسب علاقته بالشخص الذي يألفه، حتى يقدر أن يدير الحديث وينسجم معه .. كانت هناك فراغات وسط المجلس لكن (أحمد الشاقي) دائماً لايجلس في العمق .. دائماً متواضع ويحب البساطة والدعابة والنكتة .. بعد لحظات أطل على المجلس (بوعلي) وابنه وراءه ، فاتجهت أعين الحاضرين صوب الباب، مرحبين به ، فصاح أحدهم من وسط المقيل مفسحاً له مكاناً بجانبه، لكن صاحبه (أحمد الشاقي) وهو يضحك ويشير بيده :

- لا لا ذا مكانه هنا جنبي.

-في مكان هنا (أشار رجل عاقل)

- خليه هنا من شان تسهل المهمة.

- عاد فيها مهام يا (شاقي).

فهز الشاقي رأسه ليؤكد كلامه .. جلس (بوعلي) بجانبه يتوسطهما الابن الذي كاد أن ينافس أباه في (الشياكة) والعطر الذي فاح منهما ، حتى أن (الشاقي) شفط ملء قلبه وكاد أن يعلق :(ذا العطر كله يابوعلي) ..

بعد مضي ساعة تقريباً ومع قرحة القات بدأ الطفل يهمس في أذن أبيه، فانكمش وجه (بو علي) فأخذ الشاقي يرسل إشارات وغمزات، يريد أن يلفت الانتباه ليذكر بتوقعاته.. وعندما قام (بوعلي) آخذا ابنه إلى الحمام كان الشاقي قد سقط من الضحك .. البعض بدأ يفهمه والبعض الآخر احتار فيما يجري، مما اضطر الأستاذ زكي إلى السؤال :

-وكيف ياشاقي!

-قلت لك عليه مهام (وأشار إلى بوعلي وهو يساعد ابنه لدخول الحمام)

- ياشاقي ياخطير.

فعمّ المقيل الضحك متأثرين بما يعانيه الرجل.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى