الشاعر أحمد محمد بامعبد.. حياته وتراثه الشعري 1944م – 1984م

> د. عمر صالح سالم الفانوص *

> في حياة الأمم ثمة شخوص أفذاذ لا ينساهم التاريخ أبد الدهر بل سيسجلهم في صفحاته بأحرف من نور لأنهم حملوا مشاعر العلم والمعرفة فساروا على طريق النور والإبداع فأضاءوا دياجير الظلمة بأعمالهم ونتاجاتهم العلمية والأدبية والثقافية فكانت أعمالهم إضافة جديدة للثقافة والحضارة الإنسانية.
من هذا المنظور كان التربوي القدير والمربي الفاضل والشاعر المبدع المرحوم أحمد محمد بامعبد الذي نبع في منتصف الستينات من عمق الريف اليمني بنقائه وصفائه، وأسهمت حياة الريف وطبيعتها في تكوين موهبته وقدراته المبكرة، وجاءت أعماله الشعرية والأدبية الأخرى معبرة عن الواقع وحياة الناس ومعاناتهم في تلك الفترة، كان طامحاً إلى تغيير هذا الواقع بغدٍ جميلٍ ومشرقٍ، والمتأمل لقصائده يجد أن هناك مذاقاً خاصاً لدى الشاعر اختلطت فيه نكهة الريف وأهازيجه بعاداته وتقاليده مع حياة المدنية وطقوسها يختلط فيه أيضاً تكوين الشاعر المتكئ على ثقافة وطنية وقومية ترنو إلى التحرر والاستقلال والوحدة العربية.
**الميلاد والنشأة**
ولد الشاعر أحمد محمد بامعبد في مدينة رضوم بمحافظة شبوة سنة 1944م، وتوفي إثر مرض عضال في فبراير 1984م، وبين التاريخين أربعون عاماً وهي قصيرة في عمر الزمن ولكنها كبيرة بغزارة إنتاجه الشعري وعطائه التربوي، نشأ في بيت علم، لاسيما في كنف والده الشيخ محمد بن عبد القادر بامعبد منصب رضوم وضواحيها، وقد أضفت أسرته وأجواء المدينة سمتها على طفولته وأسهمت في تكوين شخصيته وموهبته فيما بعد.
والمتتبع للجذور التاريخية لأسرته يجد أن هذه الأسرة المشائخ “آل بامعبد” هم أسرة علمية توارثت العلم الشرعي كابراً عن كابر منذ القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي، وأسهموا في نشر العلم والمعرفة وتبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم ليس في مناطق السلطنة الواحدية فحسب، بل في مناطق أحور في العوالق السفلى وبعض مناطق أبين وحضرموت، وقد تمتعت هذه الأسرة بالاحترام والتقدير بين مختلف الناس من خلال دورها التنويري وإصلاح ذات البين.
وأول إشارة عن جد هذه الأسرة أوردها المؤرخ الجندي (732هـ) والذي أشار إلى أن الشيخ أبو معبد محمد بن محمد بامعبد كان من أعيان المشائخ، ورعاً وزاهداً وعالماً في منطقة العماد بالتربية من عدن، وأن طلاب العلم يأتون إليه من مختلف مناطق اليمن لطلب العلم في مجلسه.
وأكد المؤرخ الطيب بامخرمة في كتابه “تاريخ ثغر عدن” ما قاله المؤرخ الجندي، بل كان أكثر وضوحاً في إيراده للمعلومات فقد ذكر قائلاً: “وأما الشيخ أبو معبد فهو محمد بن محمد بامعبد كان من أعيان المشايخ صاحب حال ومقال ورعاً زاهداً، سكن في بدايته موضعاً بقرب من عدن يقال له العماد، فلما سمع الناس به خرجوا إليه من عدن أفواجاً أفواجاً فشغلوه عن العبادة فشكا ذلك إلى بعض أصحابه.. وبعد ذلك انتقل إلى ناحية حجر آل دغار ثم سكن موضعاً يقال له رضوم وصحبه جمع كثير وكان له ولد مبارك يلقب بالغزالي لأنه كان فقيهاً فاضلاً”.
ومما يؤكد الجذور التاريخية والعلمية للمشايخ آل بامعبد ما ذكره العلامة المؤرخ عبد الرحمن بن عبيدالله السقاف (ت 1375هـ/ 1956م)، وعلى الرغم من أنه يعد من المؤرخين المحدثين إلا أنه استقى معلوماته من مخطوطات أصيلة لم تصل إلينا، إذ جاء في وصفه لمدينة عين بامعبد قائلاً: “هي قرية صغيرة واقعة في حدِّ حضرموت الجنوبي الغربي.. فيفهم أن العين منسوبة إلى جدهم ولا يزال بالعين منه خلق إلى الآن.. وفي ترجمة الشيخ الكبير عبدالله بن علوي بن الفقيه المقدم أنه مَرَّ في طريقه من الحجاز إلى حضرموت بعين بامعبد فاستقبله شيخها الكبير محمد بن عبدالله بامعبد وأجلّه واحترمه، وكانت وفاة الشيخ عبد الله بن علوي في سنة 731هـ عن واحد وتسعين عاماً”.
وفي صفحة 62 من “النور السافر” للشيخ عبد القادر بن شيخ العيدروس أن الشيخ بامعبد انتفع بالشيخ سعيد بن عيسى العمودي المتوفى سنة 671هـ.. أما رجوع الشيخ عبد الله بن علوي من الحجاز إلى حضرموت كان في سنة 680هـ.
ويتضح من خلال النصوص التاريخية السابقة مدى العمق التاريخي لأسرة الشاعر ومدى دورها الريادي في التعليم في المنطقة وإسهامها في مختلف الحقب التاريخية في نقل الناس من حياة الجهل والتخلف إلى حياة العلم والنور والمدنية، إذن.. وبدون شك فإن الشاعر بامعبد سليل أسرة علمية ودينية أسهمت أسرته فضلاً عن البيئة العلمية التي نشأ فيها في تكوين شخصيته وموهبته الإبداعية.. والمتتبع قصائده في ديوان “شموع في ليل صحاري” غير المطبوع، يلاحظ تلك الثقافة العالية والمعارف الغزيرة والمواهب المتنوعة التي امتلكها الشاعر.
**البعد الوطني في أشعار بامعبد**
أخذ البعد الوطني مساحة كبيرة في فكر ووجدان الشاعر فجاءت قصائده معبرة عن قناعاته الوطنية والفكرية في ضرورة تحرير الوطن من الإمامة والاستعمار ومجسدة لمفاهيم الحرية والاستقلال والوحدة رافضاً للظلم والطغيان والاستبداد.. والمتتبع لقصائده يلاحظ أن حب الوطن والتغني بأمجاده ومآثره والحنين إليه بارزة في العديد من قصائده لاسيما في ديوانه “شموع في ليل صحاري”.
ويبدو أن أولى قصائده كانت بعنوان “طموح” والذي كتبها بتاريخ 3 أكتوبر 1963م أي بعد اندلاع ثورة 26 سبتمبر في شمال الوطن والذي جسد فيها أجمل معاني الصدق والحب والوفاء للوطن معبراً أصدق تعبير عن فرحته باندلاع الثورة والقضاء على الحكم الإمامي ومبشراً بقيام ثورة 14 أكتوبر.
إن الوطنية عند الشاعر ليست صك غفران توزع على البعض وتستثني الآخر، وإنما هي انتماء وعمل وتضحية، وحب الوطن والانتماء إليه ضاربة جذورها في قلب ووجدان الشاعر، كما أن الوطنية عنده ـ من خلال أشعاره ـ تعنى أن تبعث مجد الوطن وأن الكلمة هي التي ترسم الآتي والقادم من خلال التاريخ في عراقته ومجده وكنوزه، ومن ثم قدرته على بعث الهمة والوثوب.
**البعد القومي في أشعاره**
كان لحركة المد القومي العربي في خمسينات وستينات القرن الماضي أثرها المباشر في تكوين القناعات الفكرية لدى الشاعر، ولعل هذا الوعي بدأ يتشكل تحت تأثير نهوض المشروع القومي العربي، لاسيما وأن الشعر في تلك الفترة كان متصاعداً بصعود المشروع القومي، وجاءت قصائده معبرة عن طموحات الأمة العربية في الوحدة والحرية.
والمتتبع لقصائده يلاحظ أن قضايا الأمة العربية أخذت مساحة كبيرة في تفكيره، مما يدل على أن الشاعر كان قومي الفكر والانتماء، وقد كشفت قصائده حدة الصراع في الوطن العربي مع الاستعمار وإحساسه بقضية العرب الأولى (فلسطين) التي كانت حاضرة في الكثير من قصائده، والذي عكس من خلالها ما يعانيه الشعب الفلسطيني من احتلال لأرضه من قبل الصهاينة وما يعانيه الفلسطيني العربي من صنوف التشرد والضياع والقتل الجماعي.
وقد مثل الشاعر في قصائده تلك دور المثقف الملتزم بقضايا أمته وهو ربما أراد أن يقول لنا إن مهمة المثقف المبدع لا تتوقف عند حدود الكتابة الجافة (شعراً أو نثراً)، بل يجب أن يعطي الكلمة شيئاً من روحه، وأن يكون صادقاً ومؤمناً بقضية الأمة، لتخرج الكلمات طازجة معبرة عن مشاهد البطولة التي يسطرها الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وقد جاءت أشعاره معبرة عن قناعاته الفكرية متلمساً لمعاناة وآلام هذا الشعب، مدركاً لمشكلاته والذي صدرها بإبداع حقيقي يشد من العزيمة الفلسطينية والعربية.
**آثاره الشعرية**
على الرغم من العمر القصير الذي عاشه الشاعر والذي لا يتعدى الأربعين عاماً إلا أنه يتميز بكثرة وغزارة إنتاجه الإبداعي في مختلف ألوان الشعر، ومن المؤسف له أن جميع أعماله لازالت محفوظة لم تطبع في ديوان يليق بالشاعر ومكانته الأدبية والثقافية، فلازالت المئات من القصائد مبعثرة هنا وهناك، بعضها في حوزة أسرته والبعض الآخر لدى أصدقائه تنتظر من يقوم بجمعها وتصنيفها وإخراجها في ديوان يحفظها من الضياع والإهمال.
والعمل الوحيد الذي بين أيدينا هو ديوان “شموع في ليل صحاري” والذي قامت إدارة الثقافة في شبوة في الثمانينات بطبعه على الآلة الكاتبة (استنسل) على أمل طباعته ونشره، إلا أن هذا العمل ظل حبيس الأدراج ولم ير النور، وهنا نجدها فرصة لتوجيه الدعوة مجدداً إلى إدارة الثقافة بشبوة واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي يعد بامعبد من مؤسسيه إلى طبع هذا الديوان والقيام بجمع أعماله الشعرية الأخرى وطباعتها في ديوان تقديراً للشاعر الراحل وعطاءاته المتميزة في مجالات الأدب والثقافة.
كما ينبغي أن نشير إلى أن الشاعر وتراثه الشعري ينبغي أن يسلط عليه الضوء من حيث الدراسة الموضوعية والفنية لشعره على أساس أن الشعر ليس مجرد بناء لغوي ولكنه وسيلة للتعبير عن آراء الشاعر وحياة المجتمع السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
خلّف الشاعر أعمالاً شعرية كثيرة لم يشملها ديوانه غير المطبوع “شموع في ليل صحاري”، ومن أبرزها القصائد الآتية:
قصائد: تعالي، انتظار، تعصب، أصداء من الماضي، لو أنا هناك، منذ افترقنا، زفرة المساء، الخطيب، حب وكأس، طلب كتاب، شرع النمرة، عجيبة، شوق وحنين، فوران العاطفة، على الشاطئ، على لسان فلسطين، نجمة الصبح، زئبقة الوادي، عيون الغد، وغيرها من القصائد التي لم تنشر بعد.
يعد الشاعر بامعبد عضوا في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين من خلال حضوره المؤتمر التأسيسي للاتحاد في عدن في مطلع السبعينات.
في عدن وفي عام 2007م كرّم من قبل الاتحاد تقديراً لعطاءاته الأدبية والثقافية المتميزة.
متزوج وأب لابنين وثلاث بنات.. توفى إثر مرض عضال في مارس عام 1984م.
* أستاذ التاريخ المساعد - كلية التربية شبوة - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى