جثث نال منها الدود قبل أن توارى الثرى.. (1) ثلاجة حفظ الموتى بمستشفى الجمهورية.. واقــع مــر ومهين

> استطلاع / فردوس العلمي:

> لم يدر في خلدي يوماً أن أزورها.. إنها (ثلاجة حفظ الموتى) الواقعة في حرم مستشفى الجمهورية التعليمي بمديرية خور مكسر بعدن، إنه موقع بات يستغيث بكل من له ضمير إنساني، فتواجدي في هذا الموقع لم يكن بمحض الصدفة، ولكن كان بعد مكالمة استغاثة بعثرت مشاعري وأنا أستمع إلى واقع مر يحكي الوضع المزري الذي تعانيه (ثلاجة حفظ الموتى)، وصفُ أذهلني وآلمني كثيرا أن يصبح الإنسان مجرد وجبة للديدان أمام مرأى ومسمع الجميع في مكان وضع في الأساس لحفظ هذه الجثامين من التحلل.
في ثلاجة حفظ الموتى مشاهد كثيرة ومثيرة ومؤلمة تستحق تسليط الضوء عليها، كونها موقعا يحفظ جثث قتلى لهم قضايا يجب أن يعاقب قاتلوهم، وكذا ضرورة التشريح لمعرفة أسباب وفاتهم مما يساعد في القبض على الجناة وبالتالي تحقيق الأمن والأمان من خلال معاقبة الجناة حتى يكونوا عبرة للآخرين.
نرصد لكم في السطور الآتية مشاهد يجدر أن يستفيد منها صناع السينما لصنع فلم رعب اسمه (جسد تأكله الديدان).
تقع الثلاجة في الفناء الخلفي من الجهة الشرقية لمبنى المستشفى في موقع غير مؤمن أشبه ما يكون بالخرابة منه لموقع لثلاجة خصصت لحفظ جثامين كثير من الموتى أودعوا فيها لقضايا جنائية.
الثلاجة تخلو من الحراسة عدا حارس مدني كبير في السن لا يقوى على تأدية واجبه بالشكل المطلوب، بابها مغلق بقفل صغير من السهل التخلص منه، وأمام هذه الثلاجة تقع إدارة الإدلة الجنائية في المحافظة بأبوابها المتهالكة، وفي الجهة الأخرى مكان لرمي الخردوات والآثاث القديمة، كل شيء هنا يدل على التسيب واللامبالاة وقلة الشعور بأهمية المكان.
قلةالاهتمام بهذه الثلاجات الخاصة بحفظ الموتي أدى إلى تعريض الجثامين المودعة فيها إلى التحلل وانبعاث روائح كريهة لا سيما وأن كثيرا منها قد تحللت بشكل نهائي، الأمر الذي أزعج كثيراً من سكان المنازل المحيطة بالمشفى، بعد أن أصبحت روائح هذه الجثامين المتعفنة تلاحقهم ليلاً ونهاراً فضلاً عما تسببه لهم من أمراض وأوبئة خطيرة.
لقد تحولت هذه الثلاجة من مكان لحفظ الموتى من التحلل إلى مكان للأمراض والأوبئة.
**مشاهد داخلية**
صورة توضح تعفن الجثث في الثلاجة العاملة
صورة توضح تعفن الجثث في الثلاجة العاملة
لمعرفة المزيد عن هذه الثلاجة التي أضحت مصدر قلق للكثير من النواحي الأمنية والصحية كان لابد لي أن أستطلع وضعها عن كثب، بدأت باستطلاع وضعها بفتح الباب الذي يتكئ على عدد من حبات البردين (بلوك) عرفنا فيما بعد أنها لمنع خروج الروائح والديدان، المكان تلفه الروائح المنتنة، دلفت بأولى خطواتي المتثاقلة إلى الداخل حينها استقبلتني روائح كريهة جدا، ولم أدرك أنها روائح لجثامين موتى قد تعفنت أجسادهم، الغرفة مظلمة، المكان أشبه ما يكون بخرابة لا ثلاجة للموتى، أرضية المكان تملؤها الدهون البشرية.. سألت عن هذه المادة التي تغطي أرضية الثلاجة فكانت الإجابة كما توقعت بأنها دهون وشحومات نتجت عن تعفن وتحلل الجثث والتي يعود بعضها إلى سنين عدة، تحتوي هذه الغرفة على أربع ثلاجات من الألمنيوم، ثلاث منها تتسع كل واحدة لست جثث، فيما تتسع الرابعة لثلاث جثث فقط.. اثنتان في الغرفة الأمامية واثنتان في الغرفة الداخلية، جميعها عاطلة باستثناء واحدة فقط، لم أتمكن من الدخول إليها لعدم السماح لي من قبل الحارس الخاص بالثلاجة لأمر لا يعرفه سواه، المكان يخلو أيضاً من أسِرَّة نقل للجثامين غير واحد خارج بوابة المشرحة، وعلى هذه الثلاجات ثلاثة أجهزة تكييف جميعها عاطلة، بل أن كل شيء فيها معطل وخارج نطاق الخدمة.
كل شيء لا يسر الناظر هنا سوى الجهد والتفاني الذي يبذله رجال الطب الشرعي في عملهم رغم الإمكانات الشحيحة، وكذا حارس طاعن في السن أهلكته روائح الموتى المتعفنة.
**جيران المشرحة يتأذون**
منازل مجاورة  للمشرحة والثلاجة
منازل مجاورة للمشرحة والثلاجة
أدت الروائح الكريهة المنبعثة من ثلاجة الموتى والمشرحة المجاورة لها إلى تلويث المنطقة المجاورة، وتأذى الناس القاطنون بجوارها بعد أن أصبحت تلك الروائح تنغص حياتهم ليلا ونهارا دون أن تقوم الجهات المسؤولة بحل هذه المشكلة التي تنذر بكارثة صحية على المواطنين.
**العيش وسط الروائح المنتنة**
أم أركان تسكن بجوار المشرحة الخاصة بتشريح جثث الموتى تقول عن معاناتها: “يقع بيتي بجوار هذه المشرحة وما يفصلنا عنها سوى سور صغير، وهو ما جعلنا نستنشق بشكل مباشر الروائح المنبعثة من تلك الثلاجة والمشرحة المجاورتين لنا”. وتضيف: “بتنا محرومين من استنشاق الهواء النقي بعد تعطل هذه الثلاجة التي مر على تعطلها فترة طويلة دون أن تقوم الجهات المعنية بإصلاحها أو باستبدالها بأخرى، ماذا نفعل؟ لقد حكم علينا القدر أن نعيش على هذه الروائح المنتنة وما قد تسببه لنا من أمراض وأوبئة، وما نستطع قوله هو حسبنا الله ونعم الوكيل!”.
**استخدام الكمامات**
إبراهيم محمد من جهته عبر عن هذه المعاناة الصحية التي يتعرضون لها يومياً من هذه الثلاجة بالقول: “لم نعد قادرين على تحمل هذه الروائح ولجأنا إلى استخدام الكمامات في كثير من الأوقات لا سيما أثناء العبور بجوارها، أو أثناء الانطفاءات المتكررة للكهرباء في المنطقة”. ويضيف: “تقول الجهات المختصة بأن هذه المشكلة ناتجة عن عطل في إحدى قطع الثلاجة وإلى الآن لم تحرك أي ساكن في سبيل حل هذه المشكلة رغم الشكاوى التي تقدمنا بها بخصوص هذه المعاناة التي باتت تؤرق حياتنا على مدار الساعة ليلا ونهارا، ولهذا نتمنى من السلطة المحلية والجهات المعنية في المحافظة الإسراع في حل هذه المشكلة”.
**الجثث أكبر من سعة الثلاجة**
الثلاجة الوحيدة العاملة
الثلاجة الوحيدة العاملة
ولمعرفة رأي الجهات المختصة في هذا المجال التقت “الأيام” رئيس هيئة مستشفى الجمهورية التعليمي الدكتورعلي عبدالله صالح، الذي أوضح بدوره جانبا من هذه المعاناة بالقول: “أولاً يجب أن نوضح أن هذه الثلاجة الخاصة بالموتى تقع في حرم المستشفى، ولكنها من الناحية القانونية والإدارية تتبع النيابة العامة، أما عن إدخال وإخراج الجثث فيتم حسب القانون”.
ويضيف: “تصلنا الكثير من الجثث من محافظة عدن ومحافظات أخرى، وهي في العادة جثث مرتبطة بقضايا قانونية، أي مرتبطة بالشرطة والنيابة في المحافظة والمحافظات الأخرى”.
وعن تراكم الجثث في الثلاجة قال علي صالح: “إن التأخر في المعاملات الخاصة بإخراج هذه الجثث أدى إلى تراكم الجثث في هذه الثلاجة والتي لا تتسع سوى لـ(18جثة)، الأمر الذي يجبر عامل المشرحة في أحايين كثيرة على إدخال ثلاث جثث في الشلف الواحد (الخانة) الذي هو أصلا لا يتسع إلا لجثة واحدة فقط، مما يشكل عبئا على قوة الثلاجة وسعتها، كونها الثلاجة الوحيدة العاملة في المشفى بعد أن تعطلت الأخريات، وهو ما يتسسب لنا في بعض الأحيان بوجود فائض في الجثث ولا نجد مكاناً لحفظها”.
وعن الأعطاب التي تتعرض لها الثلاجة وما تسببه من مشاكل تطال جثامين الموتى والمواطنين المجاورين لمحيط المستشفى على حد سواء قال صالح: “حين أشعرنا بالعطل تم التواصل مع المهندس المختص أكثر من ثلاث مرات خلال رمضان، وتم حينها عمل الصيانة لها ولكن في كل مرة نكتشف بأن العطل لم يتم إصلاحه بشكل صحيح”.
ويوضح صالح: “وفي الأخير أفادنا المهندس بأن هناك قطعة مهمة ناقصة ولا تتواجد إلا لدى تاجر تعرض مستودعه للحريق، غير أنه وعد بتوفيرها لنا بعد عيد الفطر من المملكة العربية السعودية، وإلى الآن لم نتحصل عليها”. ويتابع: “خلال هذا الفترة أجرينا اتصالات عديدة مع الجهات المعنية بعدم قدرتنا على استلام جثث جديدة لعدم وجود سعة كافية في الثلاجة الصالحة، وذلك بغرض إرسالها إلى مستشفيات أخرى”.
وعن الفترة المخصصة لبقاء الجثة في الثلاجة قال: “بقاء الجثث مرتبط بالإجراءات، خاصة إذا كانت من محافظة أخرى، أو مرتبطة بقضايا جنائية وتحقيقاتها عادة تكون مطولة مما يبقيها في الثلاجة لما يزيد على ثلاثة أشهر”. كما أوضح صالح ـ في سياق حديثه عن المعاناة والمشكلات التي يواجهونها في مسألة إخراج الجثث من الثلاجة ـ أن مشكلة الجثث (مجهولة الهوية) أنها وصلت بكميات كبيرة إلى ثلاجة الموتى نتيجة الوضع الذي شهدته البلاد من اضطرابات في الفترة الماضية”.
ويوضح: “لقد بقيت هذه الجثث في الثلاجة أكثر من عام نتيجة لعدم استكمال التحقيقات الخاصة بها بسبب تغيير المختصين أو تحويلهم إلى مناطق أخرى أو نتيجة لغيابهم، لهذا بقيت هذه الجثث فترات طويلة في الثلاجة، بالإضافة إلى الجثث الكثيرة التي كانت تستقبلها الثلاجة من محافظة أبين أثناء الأحداث التي دارت فيها، ولهذا بقيت الجثث على ذمة هذه القضايا نتيجة لعدم وجود سلطة محلية تتخذ الإجراءات اللازمة في هذه الجثث”.
وعن المسؤولية التي يتحملها المستشفى في هذا الجانب أوضح صالح أن “مسؤولية المشفى تتركز في صيانة وإصلاح الثلاجة”. وأضاف: “ليس لدينا أية مصلحة لكي يديرها المستشفى، وحاليا نفكر بأن تكون لنا ثلاجة خاصة تستوعب جثث الحالات الطبيعية المتوفاة داخل المستشفى”.
كما اقترح صالح “أن تكون مشرحة الجثث المرتبطة بحوادث وإجراءات نيابية ومحاكم مستقلة وبعيدة عن مشرحة المستشفى”. وتابع: “لهذا، فنحن حالياً نسعى إلى تحقيق هذا الأمر سواء بتمويل حكومي أو فاعل خير حتى تكون لدينا ثلاجة ومشرحة خاصتان بالمستشفى”.
وعن عدد الجثامين التي توجد حالياً في الثلاجة أجاب علي صالح بالقول: “لدينا حالياً أكثر من عشرين جثة، بعضها يعود إلى أواخر رمضان الماضي، وبعد العطل الذي أصاب الثلاجة كثيرا يهول الأمر وينسون أنه من الطبيعي أن تتحلل جثة الإنسان وتتعفن خلال ثلاثة أو أربعة أيام”.
عشرون عاماً منذ أن بدأ محمد قاسم يوسف عامل المشرحة بمزاولة عمله في هذه الثلاجة، وعن عمله يقول: “مهمتي تتركز في إيداع الجثث وإخراجها من الثلاجة، وكذا مساعدة طبيب التشريح أثناء عملية التشريح كتقليب الجثة والمساعدة في تشريحها”.
وعن الصعوبات التي يواجهها قال: “الصعوبات التي نواجهها تتركز في تأخر التحقيقات من قبل النيابة، الأمر الذي يؤدي إلى تأخر إخراج الجثة، بالإضافة إلى استفزاز رجال الشرطة لإدخال الجثث في منتصف الليل دون أن تكون لديهم أوامر من النيابة بإيداع تلك الجثث في الوقت الذي طلب منا عدم إدخال أية جثة بدون بلاغ جنائي، فضلاً عن المشكلات التي تواجهنا من قبل أسر المتوفين الذين يطالبون بإخراج الجثة لرؤيتها وهو ما يتسبب في تعفن تلك الجثث”.
ويضيف: “أنا أيضاً أعاني الكثير، إذ لا يوجد لدي حماية سواء أمنية أو صحية، فأنا أعاني حالياً من جرثومة نتيجة لتعاملي المباشر مع تلك الجثث”.
ويبقى السؤال: على عاتق من تقع مسؤولية المشرحة؟ ولماذا لا يكون للطب الشرعي ثلاجة جديدة تصان فيها جثث القتلى حتى يتم تشريحها بصورة صحيحة كون تعفن الجثث يوثر على عملية التشريح؟.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى