تأملات .. (الأسلوب هو الرجل) لجورج بوفون

> حافظ قاسم صالح

>
حافظ
 قاسم
 صالح
حافظ قاسم صالح
(الأسلوب هو الرجل) مقال للكاتب الفرنسي (جورج بوفون)، وقد ترجمه إلى العربية الأستاذ والمفكر العربي الدكتور أحمد درويش ضمن كتابه (النص البلاغي بين التراث العربي والأوروبي)، وهذا المقال يحتل أهميَّة بالغة، لأنه وليد عصر سعى فيه الغرب إلى أن يودِّع الأميَّة إلى حد كبير، وذلك بإعادة النَّظر في مسألة التَّفكير، وبالخروج من مرحلة الشفهيَّة، واستقبال عصر الكتابة، ليس بمعنى معرفة الكيفيَّة التي بها تكتب الحروف، بل بتبنّي تفكير عصر الكتابة.
وقد كانت هذه المرحلة من تاريخهم – في القرن الثامن عشر الميلادي - تحمل اسمًا مشهورًا هو (عصر التَّنوير)، وهذا القرن هو الذي أنتج عددًا من المفكرين الذين شرَّعوا في الغرب للتَّخلّص من تفكير المشافهة – بما يترتَّب عليه من مساوئ - إلى تفكير الكتابة - التفكير العلمي - وقد بذلوا في هذا جهدًا مضنيًا، وقد كان هذا هو عصر تشكيل الأساسيَّات الرئيسة للتَّفكير.
ومن الجدير بالإشارة أن (جورج بوفون) لم يكن أديبًا، ولم يدرس الأدب، بل كان عالمًا نباتيًا، وكان منسقًا لحدائق البنك، لكن هذه الأشياء جزء من ثقافة الإنسان الأساسيَّة، وهذا يحدث في كل العصور وفي كل المجتمعات أن يوجد محبون ومتعمقون في اللغة وآدابها من غير المتخصصين، وكثيرًا ما كانوا يتفوَّقون على المتخصصين، حتى في مجال الشِّعر والإبداع، وكثير من الأدباء من المهندسين والكيمائيين والأطباء، إذن؛ فليس هناك مانع من أن يكون المتخصص بالعلوم البحتة قريبًا من اللغة، كما يذكر الدكتور أحمد درويش أن مجمع اللغة العربية بالقاهرة نصف أعضائه الأربعين غالبًا من العلميين، ورئيسه قبل الأخير هو الدكتور محمود حافظ، كان عالمًا ضليعًا في الكيمياء، وكان رئيسًا للمجمع العلمي المصري، وفي الوقت نفسه كان رئيسًا لمجمع اللغة العربيَّة، ومات عن مئة وثلاث سنوات، منذ حوالي سبع سنوات.
أما (جورج بوفون) فكان قد انتخب عضوًا في الأكاديميَّة الفرنسية سنة 1753م، وقد كان من طقوس مثل هذه الأكاديميَّات أن يفسح له المجال لإلقاء كلمة، يمنح ستة أشهر لإعدادها، ويُنتظر منه أن يقدِّم فيها شيئًًا جديدًا، وهناك انطلقت منه العبارة المشهورة “Le procédé est un être humain” “الأسلوب هو الرجل”، ويلاحظ أن كلمة (humain) كما يقول الدكتور أحمد درويش يقابلها امرأة، لهذا فسرت بـ(الأسلوب هو الرجل)، والحقيقة أنها تحتمل معنى (humain) (الإنسان) بصورة أعم وأوسع.
تتلخص فكرة مقال (بوفون) بأن “الأسلوب هو الرجل”، وهذا يعني أنك ترى روح الإنسان ودمه في خصائص كتاباته، فالكاتب الذي لا تبدو في أسلوب كتاباته الملامح الدقيقة في حياته - ليس بمعناها الشكلي - بل بمعنى طريقة التفكير وطريقة النظر إلى الأشياء، فهذا الكاتب إنما هو كاتب مزيف.
ويميز (بوفون) بين ما سماه البلاغة الحقيقية والبلاغة الشكلية، فيقول: “تستلزم البلاغة الحقيقية إعمال الموهبة، وتثقيف النفس معًا، وتلك البلاغة مختلفة تمامًا عن تلك المقدرة الطبيعية”.
ويدعو (بوفون) إلى البحث عن “الإطار الذي تقدم الأفكار من خلاله .. وهذا الإطار ليس الأسلوب وحده ولكنه قاعدته، وهو الذي يدعمه ويقويه .. ومن دونه تصبح أفكارًا غير مترابطة، وأيًا ما كان بريق الصور، وأيًا ما كان لون الجمال الذي تغرسه في تفاصيل الأشياء .. فإن الإنتاج لن يكون على الإطلاق هيكلاً مهيمنًا، بل مفتقدًا للمسة العبقرية”، لذلك نجد (بوفون) يقترح عناصر للبلاغة الحقيقية من خلال إطار وأسلوب وأفكار رئيسة وأفكار فرعية والربط بينها.
وأوضح (بوفون) أن هناك فرقًا بين بلاغة المشافهة وبلاغة الكتابة، وأكد أن المنطق الذي يحكم كل منهما مختلف، فطبيعة المشافهة لا تخضع لمنهج محدد؛ لأنها محكومة بمنطق التداعي؛ لذلك يقول: “ومن ذلك السبب فإن من يكتبون بالطريقة نفسها التي يتكلمون بها تجيء كتاباتهم رديئة مهما كان كلامهم جيدًا”.
ودعا (بوفون) إلى أن تكون الأفكار وفقًا لخطة محكمة وتساءل: “لماذا تبدو أعمال الطبيعة أمامنا شديدة التكامل؟، لأن كل عمل هو (وحدة)، وهو وفقًا لخطة خالدة”، فالخطة ضرورية لترتيب الأفكار وتنظيمها لكي تبدو الكتابة متماسكة تشبه الشجرة بذلك الإحكام فيها، رغم ما هي عليه من تنوع واختلاف من جذوع وفروع وأغصان وثمار فإنها جاءت متماسكة فلو تأملناها يمكن أن نصنع كتابة متماسكة.
وما يطفئ التوهج الفكري عند بعض الكتاب هو كما يقول (بوفون): “رغبة بعض الكتاب وضع سمات لامعة في كل مكان”، وهذا بريق مفتعل يبهر العيون لحظات قصار، ثم يترك القارئ في ظلمة حالكة، فالكلمات المؤثرة والبليغة ليست بالضرورة تلك المعقدة، بل البسيطة الهادئة التي تنساب إلى النفس لأنها تحمل صدق المشاعر.
ويدعو (بوفون) في مقاله هذا أيضًا إلى المصداقية في الكتابة يقول: “فإن المرء لو طابقت كتاباته تفكيره ولو كان مقتنعًا بما يريد أن يقنع به الآخرين فإن إخلاصه ذلك مع نفسه، هو الذي يعطيه صفة اللياقة عند قارئه، ويعطي لأسلوبه صفة الحقيقة”، إنه يدعو إلى تمثل المبادئ الصحيحة، وأن يجعلها الكاتب تتسرب إلى أعماله، ويمزجها بنفسه عند التطبيق، حتى تكون صادرة عنه وتشبهه.
ويختم (بوفون) مقاله بالحديث عن القيم السامية، والمبادئ النبيلة التي تخلد الأعمال يقول: “فإذا كان الأسلوب راقيًا ونبيلاً وساميًا فإن الكاتب سوف يعد كذلك في كل العصور، لأنه لا يدوم بل لا يخلد إلا الحقيقة، ولأن جمال الأسلوب يكمن في واقع الأمر في العدد اللامتناهي من الحقائق التي يقدمها”.
فما أحوجنا لتخليد أعمالنا بالدفاع عن الحقيقة، والمبادئ السامية التي تتقاطع اليوم مع كثير من الكتابات الزائفة التي تجانب الحقيقة والقيم النبيلة.
وفي الختام، إن كان لنا أن نعلق على أفكار هذا المقال، فإننا نقول إن في تراثنا النقدي العربي إشارات كثيرة لمثل هذه الأفكار التي تضمنها مقال (بوفون)، نجد ذلك – مثلاً - في مواضع كثيرة عند الجاحظ، وخصوصًا في كتابه (البيان والتبيين)، من ذلك قوله - عما يصطلح عليه (بوفون) بالبلاغة الحقيقية -: “سياسة البلاغة أشد من البلاغة”، فالبلاغة ليست المقدرة الطبيعية أن تتكلم بسهولة، ولكن بحاجة إلى تنظيم وترتيب وإحكام الصياغة، فليس الإشارات والصوت الجهوري ما يحقق الفائدة، بل هناك شيء آخر كما يقول (بوفون) “هناك أفكار وأسباب وأن يعرف المتكلم كيف يقدمها”، وهذه هي في تراثنا فكرة راسخة، وهي المتمثلة في مقولة: “لكل مقام مقال”.
وقديمًا في تراثنا قيل: “الكلام الصادر من القلب يصل إلى القلب، والصادر من اللسان لا يتجاوز الآذان”، وهي مقولة سابقة لإشارة (بوفون) إلى المصداقية في الكتابة، ولو تمادينا في استقصاء المقابلات التراثية لأفكار (بوفون) لوجدنا أكثر مما ذكرنا.
* محاضر في كلية التربية – جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى