الـجـهـاز

> د. علي الزبير

> دعني يا عزيزي أفتح أمامك اليوم صفحة لم تُقرأْ من قبل.. صفحة ظلت مرمية في زاوية بعيدة من أعماق المسمى (أنا).. لا بأس.. بالإمكان أن نسميها حكاية.. حكاية مؤلمة.. حكاية مدهشة.. أنا - على الأقل - اعتبرها مدهشة.. مع أني لست متأكدًا من أني أقول شيئًا مفاجئًا.. فأنا لم أعد أثق بأن ما بداخلي من أسرار مازالت أسرارًا.. بل إني في لحظات - وهذا اعتراف لم أكن أنوي الإدلاء به - أشعر بأن داخلي خواء.. لا أسرار .. لا أحلام.. لا ذكريات.. لا حب .. لا شيء .. لا شيء .. أشعر بأني لست أكثر من كرة مملوءة بهواء معتق.
أشعر بأني .. نعم .. نعم .. أنت محق .. إن كثيرًا من الناس في هذا الوطن يشعرون بذلك.. ولكن أمري يختلف .. نعم يختلف .. كيف؟.. دعني أكمل فقط وستفهم.. لا بأس .. لن أستطرد كثيرًا .. سأبدأ الآن، ولكن .. حذارِ من التوغل في خطوط وجهي.. أو الانجذاب إلى غابات عينيّ حين أتحدث.. فليس خطوط وجهي سوى خارطة تقودك إلى بحر الآلام.. وليس اخضرار عينيّ سوى لهبٍ مقنّع.. ستتأكد من ذلك حين تهاجمك رائحة الحريق المتصاعد مع كلمات حكايتي.. ثم احذرْ أن تتوقف كثيرًا أمام ارتعاش جسدي .. فليس لذلك أهمية قياسًا بما سيحدث بعد ذلك.
وصدقني أنا نفسي لست أدري ما سيحدث بعد ذلك .. ربما سأصير - في لحظة - فحمةً.. أو حبلاً من دخانٍ يضيع في الفضاء الفسيح.. وربما أنفجر إلى شظايا صغيرة يبتلعها الفراغ.. وقد أنصهر.. فأصير قطرة تمتصها شقوق الأرض.
صدقني.. لا أدري ما الذي سيحدث بعد أن ألفظ آخر حرف من الحكاية .. أقول هذا حتى لا يكون الأمر – أيًا كان - مفاجئًا لك .. أما أنا .. فلست خائفًا ولا قلقًا.. لسببٍ وحيد .. هو أني سأكون لحظتها في ذروة السعادة والمجد .. لا بأس.. ما زال في الوقت متسع لأوضح لك أكثر.. ولكن ابتلعْ دهشتك أولاً .. فلا يليق بمن يشهد هذه اللحظة التاريخية أن يحتفظ ولو بجزء من الخوف والدهشة .. اخلع عباءة خوفك، وابتلع دهشتك أولاً، وستعلم كيف تكون تلك اللحظة ذروة السعادة والمجد.. ولكن .. لا بأس من الإفصاح لك عن بعض الأمور النظرية.. ولنؤجل قضية إحساسك بها إلى محطة قادمة.. والأمر ليس صعبًا كما قد تتصور.. إنه يتعلق بإحساسي بكياني في تلك اللحظة.
لم تفهم؟.. لا بأس.. ستبدو لك الأمور أوضح عما قريب.. ولكن دعني أولاً أسألك: هل جربت يومًا أن تتحرر من سجن ثيابك.. فتسير في الشوارع والحدائق عاريًا.. تجلس في مكتبك عاريًا.. تتناول طعامك في المطعم عاريًا.. تقرأ عاريًا.. تكتب عاريًا.. تقابل أصدقاءك عاريًا.. تصلي عاريًا.
لا تقل شيئًا.. أعلم أنك لم تفعل، ولن تفعل.. ولن أفتح معك جدلاً حول معنى الحرية.. لأنك ببساطة.. ستحدثني عن نظريتك العتيقة عن الحرية.. وعن حدود الحرية.. وأن حرية الشخص تنتهي حين تبدأ حرية الآخرين.. وستفيض في الحديث عن الحياء.. والذوق العام.. وعن القوانين والشرائع التي ترسم الخطوط الدقيقة للحرية.. إلى غير ذلك من الفلسفة العقيمة التي أعرفها جيدًا.. والتي كنت أؤمن بها أنا أيضًا في يوم ما .. قبل أن أقتلع مسمار الخوف الذي كان يقيد حريتي .. الحرية التي لا تعترف بالحدود.. ولا تعترف بأن ثمة حريةً غيرها يلزم احترامها .. الحرية التي حين مارستها ببراءة، اقتادوني بقسوة إلى هذا المكان.. إلى هذه الغرفة الكئيبة.
أعلم جيدًا أنك لا تؤمن بهذا النوع من الحرية.. ولهذا أنت لست في غرفة كغرفتي.. ولا يغرسون في جسدك حقنة مخدرة كلما أردت أن تعبر عن أفكارك بتلقائية.. ولكن.. دعنا من كل هذا الآن .. ولأبدأ بتفجير حكايتي التي ظلت حبيسة صدري ما لا أذكر من الزمن.. ربما سنوات.. وربما قرونًا.. وربما ساعات أو دقائق.. وربما حدث ذلك خارج الزمن الذي يمكن قياسه.. لم أعد أهتم لذلك.
المهم عندي الآن أن تعرف أني كنت ذات يوم قاب قوس أو أبعد بقليل من تسنّم كرسي (الرئاسة).. نعم .. كرسي رئاسة الجمهورية.. وأحسب أن هذه العبارة مدخل مناسب لحكايتي.. كرسي رئاسة الجمهورية.. ولكن.. لكي أذهب معك أبعد من هذه العبارة السديمية، أرجو أن تحذف خطوط تلك الابتسامة الخبيثة التي بدأت تتكور فوق شفتيك.. إن من الحكمة أن يقمع المرء ابتسامته مبكرًا قبل أن تتحول إلى قهقهة لن يكون له قِبَل بها.
أقول: كنت على وشك أن أغدو رئيسًا.. ولكن (الجهاز).. وأرجو أن لا تسألني ماذا أعني بـ(الجهاز) .. لأن ذلك سيضطرني إلى أن أكشف من جسدي ما يتخطى حدود حريتك.. لكي أريك ما لم يستطع الزمن محوه من بصمات هذا (الجهاز).
المهم أن هذا (الجهاز) قرر عدم صلاحيتي لأكون رئيسًا.. ولو سألتني: لماذا ؟.. سأقول لك: لا أعلم، أو بصيغة أدق: لا أتذكر.. والسبب أن ذلك (الجهاز) تحدث معي حينها بـ(لغة) أفقدتني الجزء الأكبر والأهم من ذاكرتي.. وتسللت بعض حروف هذه (اللغة) إلى جهازي العصبي فحذفت أهم وظائفه.. صدقني أنا لا أتذكر شيئًا من ذلك الحوار.. أو الحديث.. أو الجلسة.. أو المحاكمة.. أو التحقيق.. أو ..بإمكانك أن تسميه كيف شئت.. ولن أعترض.. لأني فعلاً لا أدري كيف تم ما تم.. ولكن بعض أصدقائي كتب إلي لاحقًا فأوضح لي أن (الجهاز) اكتشف أني امتلك القدرة على (الحب).. وأني أقترف الصدق كلما تحدثت.. وأن لساني لا يتحرك سبع مرات في فمي قبل أن ألفظ بالكلمة.. وأخطر من ذلك أن (الجهاز) فحص أظفاري.. وأنيابي.. فلم يجد أي أثر للدماء.. فقرر أني لا أمتلك المؤهلات لأكون رئيسًا.. وأضاف صديقي: “ليتك خلعت عنك رداء الشجاعة والكبرياء والصدق في ذلك المقام.. لتكون في منأى عما آلت إليه حالك”.
لم تفهم؟.. لا ألومك.. لأني أنا نفسي لا أفهم ما الذي حدث قديمًا، وما الذي يحدث الآن.. ولا ألومك إن كنت لا تصدقني.. فأنا نفسي لست واثقًا من أن ما حدث قد حدث فعلاً.. فأنا يا عزيزي أكثر خواءً من هذه الغرفة الضيقة التي ليس بها الآن إلا أنا وهذه الحصيرة المتهالكة.. وكل ما مر بي، إن كان قد حدث فعلاً، لا يؤلمني تَذكّرُهُ إلا بقدر ألم الحقنة التي يغرسها طبيب المصحة النفسية في إليتي كل صباح ومساء.
**د. علي الزبير**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى