أبو نواس واختلاف النقاد في شعوبيته (1 - 2)

> حافظ قاسم صالح

> لقد شهد العصر العباسي تطورات كبيرة في مختلف نواحي الحياة، فتغيرت الحياة، وتغير نمط العيش، وامتزج العرب بالأعاجم، وتأثرت الحياة بالحضارات الأجنبية في جوانبها المختلفة، فكان على الأدب عامةً، والشعر خاصةً، أن يواكب هذه التطورات؛ لأن الأدب سجل للحياة، وموقف منها، فبدأ التجديد في الشعر ليساير روح الحياة الحضارية، فبرزت فنون وأغراض جديدة لم يألفها الشعر من قبل، وكان التجديد في مقدمة القصيدة والإعراض عن التمسك بالموقف الطللي واحدًا من الاتجاهات التجديدية في هذا العصر، وكان الشاعر أبو نواس زعيمًا لهذا الاتجاه، حتى ذهب بعض الدارسين – كما سنرى - إلى أن تجديده وثورته على مقدمة القصيدة، إنما كان مظهرًا من مظاهر شعوبيته.
إن الشعوبية نزعة سياسية عنصرية ظهرت في العصر العباسي تضع من شأن العرب وترفع من غيرهم، وظهرت هذه النزعة بعد أن عانى الموالي من الازدراء في عهد الدولة الأموية، فلما قامت الدولة العباسية ظهرت دعوات الموالي من شعراء وأدباء ومفكرين وساسة، ممن ينتمون إلى أصول غير عربية، يطالبون بالمساواة بين الشعوب المنضوية تحت لواء الإسلام، وربما أن مطالباتهم لم تلق استجابة، فتطورت إلى دعوة “تفضيل عدد من الشعوب كالفرس والروم ـ ممن كان لهم في التاريخ ذكر ومجد ـ على العرب”، وهذه الشعوبية “لم تكن محددة المعالم لها شعائر ظاهرة معينة ... وإنما هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب ارستقراطية العرب”.
لقد رأى كثير من النقاد أن الثورة التي قام بها أبو نواس على مقدمة القصيدة الطللية إنما كان بدافع سياسي شعوبي، وألصقوا به تهمة الشعوبية، واستدلوا ببعض النصوص من شعره التي يرونها تستهزئ بالعرب، من مثل قوله:
عــاج الشقي على دار يسائلهــا
وعجت أسال عن خمارة البلد
لا يُرْقئ الله عينيْ من بكى حجَراً
ولا شفَى وَجْدَ من يصْبو إلى وَتَدِ
قالوا: ذكرت ديار الحي من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس وأخوتهم
ليس الأعاريب عند الله من أحد
وكان يدعو إلى اتخاذ الخمر للتغني به في مطلع القصيدة بدلاً من البكاء على ديار المحبوبة الزائلة، ومن ذلك قوله:
لا تبك ليلى ولا تطرب إلى هند
واشرب على الورد من حمراء كالورد
فوقف بعض الباحثين عند مثل هذه النصوص ورأوا أنها تحمل طابعًا شعوبيًا، ومن هؤلاء الباحثين مصطفى الشكعة، الذي رأى أن أبا نواس جعل من شعوبيته مذهبا “للتعريض بكل واقف على رسم أو باك على دمنة مستهدفًا من ذلك النيل من العرب محاولا السخرية بهم والحط من شأنهم”.
ويقول الدكتور التطاوي: إن دعوة أبي نواس إلى التجديد في مقدمة القصيدة “لم تصدر منه كشاعر فنان بقدر ما صدرت عنه كشاعر شعوبي دفعه تبني القضية السياسية إلى فرض سيطرتها على قضايا الفن الشعري فحركة أبي نواس تأتي صدورها على لسان شعوبي آثر السخرية من العرب وتحقيرهم”.
والحق أن في هذا الرأي فيه كثير من التعسف؛ إذ إنه لا يستند إلى قرائن مادية، أما ما عبّر عنه في شعره يبقى خاضعًا للتأويل والقراءة، ولا يصلح اتخاذه دليلاً قاطعاً على إدانة الشاعر، بل إن التعامل مع الشعر على هذا النحو لا يخلو من ظلم للشعر العربي عامة وفنيته.
وقد كان الدكتور طه حسين أقل حدة في تقييم مذهب أبي نواس الشعري، فهو يربط بين تجديد أبي نواس والصدق الفني، فيرى أن أبا نواس يريد أن يتخذ في الشعر مذهبًا جديدًا، وهو التوفيق بين الشعر والحياة الحاضرة، بحيث يكون الشعر مرآة صافية تتمثل فيها الحياة، ولكن طه حسين يعود فيصنف مذهب الشاعر فيقول:إن مذهب الشاعر”ليس مذهبًا شعريًا فحسب، إنما هو مذهب سياسي أيضًا، يذم القديم ـ لا لأنه قديم ـ بل لأنه قديم ولأنه عربي، ويمدح الحديث ـ لا لأنه حديث ـ بل لأنه حديث ولأنه فارسي، فهو إذن مذهب تفضيل الفرس على العرب مذهب الشعوبية المشهور”.
وفي مقابل هذا الفريق ـ الذي يرى أن أبا نواس كان دافعه إلى التجديد دافعًا سياسيًا شعوبيًا ـ نجد فريقا آخر من النقاد يمجدون تجديد أبي نواس، هذا التجديد الذي كان ضرورة فنية ملحة لمواكبة التطور في الحياة في العصر العباسي، حيث يرى الدكتور العربي درويش أن أبا نواس وإن تعرض في شعره إلى ذكر كسرى وحضارة الفرس، فهو لا يريد المفاخرة بين حضارة الفرس وحياة العرب، وإنما يريد أن يوازن بين حضارة فرضت نفسها على العقل العربي وبين ماضي العرب الداثر.
أما الدكتور شوقي ضيف فيرى في مذهب أبي نواس شعوبية، ولكن ليس كشعوبية بشار فيرى أن شعوبية أبي نواس “من لون آخر ذلك أنه لا يوازن بين خشونة البدو وحضارة الفرس كما يصنع بشار وغيره من الشعوبيين الحقيقيين، وإنما يوازن بين تلك الخشونة وبين الحضارة العباسية المادية وما يجري فيها من خمر ومجون كان يعكف عليهما عكوفا،ويأخذ ذلك عنده شكل ثورة جامحة على الوقوف بالرسوم والأطلال وبكاء الديار ودعوة حارة إلى المتاع بالخمر”.
وفي رأي الدكتور شوقي ضيف شيء كثير من الإنصاف، ولو كان أطلق على هذا المذهب اسم المذهب الفني لكان أفضل من أن يقول أن مذهب أبي نواس ليس مذهبًا شعوبيًا حقيقيًا؛ إذ إن قوله ليس شعوبيًا حقيقيًا ينفي بطريقة غير مباشرة الشعوبية عن أبي نواس؛ لأن الشعوبية الممقوتة هي الشعوبية الحقيقية العنصرية، ولكن الدكتور شوقي ضيف كان حذرًا في نفي التهمة بصريح العبارة، ربما لأن تهمة أبي نواس بالشعوبية قد أصبحت راسخة في عقول كثير من النقاد، فتجنب الاصطدام معهم فأفرغ هذه التهمة من مضمونها الحقيقي.
**محاضر في كلية التربية ـ جامعة عدن**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى