بمناسبة المولد النبوي الشريف..البوصيري وشوقي .. بين بُردةِ المديح ونهج البُردة

> ناجي عبداللطيف

> في البداية.. نجد أنفسنا ونحن بين يدي الإمام البوصيري - رحمه الله - نقرر حقيقة مؤداها أن: قصيدة (بردة المديح) مازالت تحمل بين جوانحها تلك الروح الإيمانية التي دفعت بها إلى آفاق الزمان، فلا تزال تحيا بيننا شابة نضرة، رغم مرور الزمان، ولم نرَ أحدًا من الشعراء حاول أن يتخطى بشعره آفاقها، إلا وردَّته خلفها، فهي بمثابة السبق والإمام، لمن أراد أن يمدح خير الأنام، على مدار الزمان والأعوام.. ولا عجب.
ونحن هنا نقف أمام البردة المسماة (بالكواكب الدرية في مدح خير البرية) للإمام البوصيري وقصيدة: نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي، والتي تعد من أشهر القصائد التي تتبعت آثار (بردة المديح)، حيث نحا شوقي نحوها، وهو يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدبت فيها الروح، وذاع صيتها بين الناس، ومع هذا لم تجاوز بردة البوصيري باعترافه بنفسه في قصيدته حيث يقول:
المادحونَ وأربابُ الهوى تبعٌ
لصاحبِ البُردةِ الفيحاءِ ذي القدَمِ
وفي هذه المقابلة بينهما نحاول أن نبرز كيف اقتفى أمير الشعراء أحمد شوقي أثر الإمام البوصيري وهو يكتب قصيدته: (نهج البردة) من حيث الشكل والموضوع.
أولاً: الشكل
فنجد أن البوصيري - رحمه الله تعالى - حين بدأ في كتابة قصيدته قد استأنسَ بميمية (ابن الفارض) شاعر الحب الإلهي، حيث يقول:
هلْ نارُ ليلى بَدَتْ ليلاً بذي سَلمِ
أمْ بارقٌ لاحَ في الزوْراءِ فالعَلمِ
ومطلع قصيدة الإمام (البوصيري):
أمنْ تذكرِ جيرانٍ بذي سَلمِ
مزجْتَ دمْعاً جرى منْ مُقلةٍ بدَمِ
حيث نجد أنه قد اختار بحر البسيط، كما فعل ابن الفارض بتفعيلاته التامة: (مستفعلنْ فاعلنْ مستفعلنْ فعِلُنْ) في صدر البيت، وفي عجزه، وكذلك الرويْ، وهو الميم المكسورة المشبعة، ونجد أن شوقي قد اختار لقصيدته نفس البحر البسيط، ونفس الروي الميم المكسورة، حيث يقول:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلمِ
أحلَّ سفْكَ دمي في الأشهرِ الحُرُمِ
وهو بهذا النحو يؤكد على أنه يقتفي أثر البوصيري - رحمه الله تعالى - في نظمه لبردته، ويعترف له بالسبق والإمامة في مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: الموضوع
أما من ناحية الموضوع في القصيدة، فنجد أن البوصيري قد تحدث في (7) موضوعات، وكذلك اقتفى شوقي أثره في كتابته لنهج البردة، فجاءت المقاربة بينهما كما يأتي:
1ـ الغزل وشكوى الغرام:
بدأ البوصيري قصيدته بالنسيب، وهو نسق معماري في بناء القصيدة العربية حيث يقول:
أمنْ تذكرِ جيرانٍ بذي سَلَمِ
مَزَجْت دمْعاً جرى منْ مُقلةٍ بدَمِ
ويقول شوقي:
ريمٌ على القاعِ بينَ البانِ والعَلَمِ
أحلَّ سَفكَ دمي في الأشهُرِ الحُرُمِ
ويقول البوصيري:
نَعَمْ سَرَى طيْفُ منْ أهوَىْ فأرَّقني
والحبُ يعترضُ اللذاتِ بالألمِ
يا لائمي في الهوى العذريِّ معذرةً
مني إليْكَ ولو أنْصَفْتَ لمْ تَلُمِ
ويقول شوقي:
سَرى فَصَادَفَ جُرحاً دامَيَاً، فأسَا
ورُبَّ فضلٍ على العشاقِ للحُلُمِ
يا لائمي في هواهُ، والهوى قدرٌ
لو شفَّكَ الوجْدُ لم تعْذِلْ ولمْ تَلُمِ
2 ـ التحذير من هوى النفس:
نجد البوصيري بعدما انتهى من الغزل بدأ في تحذير نفسه من الهوى فيقول:
فإنَّ أمَّارتي بالسوء ما اتعظتْ
منْ جهْلِها بنذيرِ الشيْبِ والهَرَمِ
ويقول شوقي:
يا نفسُ، دنياكِ تُخفي كلَّ مُبْكَيةٍ
وإنْ بدا لكِ منها حُسْنُ مُبْتَسَمِ
ويقول البوصيري:
أمَرْتُكَ الخيرَ لكنْ ما ائتمرْتُ بهِ
وما استقمْتُ فما قولي لكِ استقمِ
ويقول شوقي:
يا ويْلتاهُ لنفسي! راعَها وَدَهَا
مُسْوَدَّةُ الصحْفِ في مُبْيَضَّةِ اللمَمِ
3 ـ مدح النبي (صلى الله عليه وسلم):
ونجد البوصيري يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
مُحمَّدٌ سيَّدُ الكوْنَيْنِ والثقليْـ
ـنِ والفريقيْنِ منْ عُرْبٍ ومنْ عَجَمِ
فيقول شوقي:
مُحمَّدٌ صفوَةُ الباري، ورحمتُهُ
وبُغْيةِ اللهِ من خلقٍ ومنْ نَسَمِ
ويقول البوصيري:
هوَ الحبيبُ الذي تُرْجى شفاعتُهُ
لكل هَوْلٍ من الأهوالِ مُقتحمِ
فيقول شوقي:
أُلقي رجائي إذا عزَّ المُجيرُ على
مُفرِّجِ الكرْبَ في الداريْنِ والغَمَمِ
4 ـ مولده (صلى الله عليه وسلم):
ثم تحدث البوصيري عن مولد النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أبانَ موْلدهُ عنْ طيبِ عُنصُرِهِ
يا طيبَ مُبْتدأٍ منهُ ومُختتَمِ
يومٌ تفرَّسَ فيهِ الفرسُ أنهُمُ
قدْ أنذِروا بحلولِ البؤسِ والنقَمِ
فيقول شوقي:
سَرَتْ بشائرُ بالهادي ومولدِهِ
في الشرقِ والغربِ مَسْرَى النورِ في الظلَمِ
تَخطَّفتْ مُهَجَ الطاغينَ منْ عَرَبٍ
واطَّيَّرتْ أنفسَ الباغينَ منْ عَجَمِ
5 ـ معجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم):
ثم تحدث البوصيري في قصيدته بعد ذلك عن معجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم) فقال:
مثلَ الغمامةِ أنَّى سارَ سائرةً
تقيهِ حرَّ وطيسٍ للهجيرِ حَمِيْ
فيقول شوقي:
وظلَّلتهُ، فصارتْ تستظل بهِ
غمامةٌ جذَبتْها خيْرَةُ الديَمِ
ويقول البوصيري:
وما حوَىْ الغارُ منْ خيْرٍ ومنْ كَرَمِ
وكلُ طرفٍ من الكفارِ عنهُ عَمِيْ
فيقول شوقي:
سَلْ عُصْبَةَ الشرْكِ حولَ الغارِ سائمةٌ
لولا مُطاردةُ المختارِ لمْ تُسَمِ
6 ـ رحلة الإسراء والمعراج:
ثم بدأ الأمام البوصيري في سرد رحلة الإسراء والمعراج حيث يقول:
سَرَيْتَ منْ حَرَمٍ ليلاً إلى حَرَمٍ
كما سَرَىْ البدرُ في داجٍ منَ الظُلَمِ
وبتَّ تَرْقىْ إلى أن نلْتَ منزلةً
منْ قابِ قوْسَيْنِ لمْ تُدْرَكْ ولمْ تُرَمِ
فيقول شوقي:
أسْرىْ بكَ اللهُ ليلاً إذْ ملائكُهُ
والرسْلُ في المسجدِ الأقصى على قَدَمِ
لمَّا خَطَرْتَ بهِ التفوا بسيَّدِهِمْ
كالشُهْبِ بالبدرِ، أوْ كالجُنْدِ بالعَلَمِ
صلى وراءَكَ منهمْ كل ذي خَطَرٍ
ومنْ يفُزْ بحبيبِ اللهِ يأْتَمِمِ
7 ـ في المناجاة وعرض الحاجات:
ثم يختتم الإمام البوصيري قصيدته بالمناجاة وعرض الحاجات حيث يقول:
يا أكرَمَ الخلْقِ مالي منْ ألوذُ بهِ
سوَاكَ عندَ حلولِ الحادثِ العَمِمِ
فيقول شوقي:
إنْ جلَّ ذنْبي عنِ الغفرانِ لي أمَلٌ
في اللهِ يجعَلُني في خيرِ مُعْتَصِمِ
* بتصرف من محرر الصفحة الأدبية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى