الإيقاعية الشعرية في ديوان (أغاني الحياة) لأبي القاسم الشابي (2 - 1)

> كوثر خليل

> يمثل شعر أبي القاسم الشابي - إذا ما درسناه من وجهة نظر تحليل نفسية، ومن وجهة نظر التحليل الإيقاعي - مدونة مهمة لا فقط على مستوى الأدب التونسي، بل على مستوى الأدب العربي عمومًا، فهذا الشاعر المتخارج عن إبستيمياته الضيقة ليصوغ روح الكائن الإنساني في تردّدها الموجع بين عوالم متناقضة الأبعاد، فلا ينطق بغير عبقرية الشعر، ولا يعترف بحدود المكان و اللامكان، دأبه في الكتابة طفولة مستعادة تعيده - دائمًا - إلى أصول الأشياء من كينونة فيزيائية أو نفسية، وتنطقه بلغة العقل الشاعر، فلا يفتأ يجوب أصقاع اللّغة يغترف منها بديع المعاني، ويصهرها في تنور المكابدة، فيصير لشكلها تحديد، ولكينونتها إشعاع، وإيقاع يتردد في الكون من حقبة زمنية لأخرى.
وقد اتخذ الزمن كإيقاع داخلي للنص الشعري أبعادًا كثيرة تقوم بإغناء النص، وإضفاء الكثافة على الجو الشعري بصفة عامة، وهو في أربعة أنماط: الزمن (الجسدي)، والزمن (الموضوعي)، والزمن (المجرد)، والزمن (المنشود).
**الزمن الجسدي**
تمثل الحالة الروحية الشعرية في جزء كبير منها تصعيدًا للحالة الجسدية، وقد كانت الحالة الجسدية للشابي حالة مخصوصة اتصفت في معظم فترات حياته بالعلة والآلام، بل إنه كان من خلال الكتابة يبذل جهدًا جبارًا يرهقه، ويحطم أعصابه، وإن كان يعطيه لحظات من الشعور بالنصر والقوة.
لحظات هي اللانهاية في عطائها، ولكنها حين ترده إلى عالم الواقع، أي عالم المرض والعجز أمام المستعمر تقضي على ما تبقى من أوصاله، فيفر إلى الغاب يطبب جراحه، ويرتق أوصاله، ليسترد بعض العافية تسعفه في عمره القصير، فإذا شعره في هذا الباب قسمان: قسم يحاكي الألم، ويصفه ويشرح أبعاده التي تتعدى الجسد إلى آلام الروح، وشقاء الوعي الإنساني أمام عجزه الطبيعي إزاء قوى تتجاوزه كالقدر والاستعمار، إضافة إلى منزلة الشاعر في حد ذاته، وحساسيته العميقة مقابل خصائص الواقع بصفة عامة.
أَصيخي فَمَا بَيْنَ أَعشارِ قلبي
يرف صَدَى نَوْحِكِ الخافِتِ
مُعيداً على مُهجتي بحَفِيفِ
جَناحَيْهِ صَوْتَ الأَسى المائتِ
(الزنبقة الذاوية)
أنا طَائرٌ، مُتَغرِّدٌ، مُتَرنِّمٌ
لكِنْ بصوتِ كآبتي وَزَفيري
(مناجاة عصفور).
ولكنْ هو القَدَرُ المستبدّ
يَلَذّ له نوْحُنا، كالنّشيد
**(حديث المقبرة)**
وقسم كان يمثل البديل الذي يريده الشاعر لهذا الجسد (غضارة الشباب، سعادة التلاحم مع عناصر طبيعية، الراحة المتوسطة بين ألمين، آلام الجسد بصفتها وسيلة للتطهير وبلوغ الخلود).
أَنْتَ يا قلبيَ قلبٌ أنضجَتْهُ الزَّفَراتْ
أَنْتَ ليلٌ مُعْتِمٌ تَنْدُبُ فيه الباكياتْ
أَنْتَ كهفٌ مظلِمٌ تأوي إليه البائِساتْ
أَنْتَ صرْحٌ شادَهُ الحُبّ على نهرِ الحياةْ
لِبَناتِ الشِّعْرِ لكنْ قوَّضَتْهُ الحادِثاتْ
**(إلى قلبي التائه)**
إن الدراسة النفسية لشعر أبي القاسم الشابي تجعل من جسده قيثارة شعره، فهذا الجسد المثقل بالمرض والممزق بفورة الشباب من جهة وبراثين العلل من الجهة الأخرى، هو الذي يصدر هذه الأصوات الشعرية ،فتكون تارة رهيبة يصبغها الأنين، وطورًا صارخة دافعة للتجاوز في سماء الكونية الجسدية والكونية الشعرية).
إن الحساسية الشعرية لدى أبي القاسم الشابي تتجلى أيضًا من خلال تلك المحاكاة للطبيعة على أساس من المشاركة الكونية التي تربط الكائنات، فيجتمع الشتاء مع السبات إلى الخريف مع الركود والجمود والموت وتظهر مفردات الظلام والعجز فالخوف لتخلق جوًا من العداوة والتفكيك بين العناصر لتتضافر ضد الشاعر وشعوره بالغربة، ثم يأتي الربيع فتتحرر الكائنات وتتزاوج وتتكاثر وتعيده إلى الطفولة مهد السلام البعيد الذي يفتقده جسده المريض وروحه الممزقة فتلتئم جراحه، وتطفأ حرارتها بندى الفجر الوليد.
ولكن الزمن الجسدي ما يفتأ أن يأخذ منعرجًا آخر تمامًا، فتغريه المكابدة الشعرية بولوج قبر الموت، وليس ذلك يأسًا، كما يذكر الشاعر أحيانًا، ولكنه دفع بالمعرفة الجسدية حتى أقصاها، واستغراق في الألم حتى معرفة منتهاه، وقد كان موت والده بالنسبة لروحه المرهفة هزة عنيفة أرغمته على التفكير في الموت، ومحاولة ولوج هذا العالم فكرًا وشعرًا، فكان (حديث المقبرة)، وهو شعر فلسفي يروم أغوار الممكن السحيقة، وكذلك قصيدة (إلى الله) التي تمثل محاورة لما هو سماوي وجودي في سمة إنسانية شمولية.
يعمل الطابع الإنصهاري للحظة الكتابة على صياغة الترابط الغنائي بين الأصوات اللغوية، وخلق الجدل بين الأصوات القوية والضعيفة، الغليظة والرقيقة، المرتفعة والمنخفضة، المتجاذبة والمتنافرة.
فالترابط بين هذه الأوصاف المختلفة هو الذي يغني القصيدة ويشحن الجو الشعري على أساس من الانتظام الداخلي للغة.
يعد أبو القاسم الشابي العدم أغنى قيمة من الوجود في الحياة على مستوى الشعرية، لأنه يكون جسر تحقق الذات الشاعرة، فالموت في نظره ليس نهاية الحياة بمعناها المادي، ولكنه البعد الذي يأخذ فيه الزمن مساحته القصوى، فالحياة وإن تركبت من حيوات بشرية غير محدودة، فإنها تبقى قاصرة بذاتها مضمحلة بشروطها الزمنية، أما الموت حيث لا زمن يخضع لشروط الأرض والجاذبية تجد الذات الشاعرة ما تفتقده من أساس للحرية، فالمكان والزمان هما أيضًا من حدود الحرية.
**الزمن الموضوعي**
إن العالم الموضوعي للشاعر يبقى بعيدًا عن إدراكه المحض المباشر، وإن كان متواجدًا في شعره، ويتخذ القصيد بأكمله، فالزمن الموضوعي للشاعر هو زمن تتشابك فيه كينونة الآخر بكينوناتنا نحن، الآخر الشعب، الآخر المستعمر، وهذا ما يجعل هذه المواضيع مثرية للتجربة الشعرية، وحافزًا للذات على تجاوز واقعها والانتباه إلى ما يحدث فيه فانفتاح الذات الشاعرة على العالم الموضوعي يجعلها تتنزل بزخمها العاطفي واللغوي إلى أرض الواقع لتشارك شبيههما وظيفته الواقعية، وهو ما يتضاد مع الانعزال الحالم الذي يجعل الذات الشاعرة منكفئة على اختياراتها الجمالية الخاصة مكتفية بديكور مسبق للحالة الشعرية.
أما المواضيع المتخارجة عن الحساسية الشعرية المباشرة فتتمثل في علاقة الشاعر بالمجتمع ككينونة مجردة من جهة وكواقع طبقي من جهة أخرى، ثم علاقته بالعنصر الدخيل عليه، وهو المستعمر، وإن كانت علاقة الشاعر بالمجتمع تقوم على إسقاطات سيكولوجية أساسها الشعور بغربة الأنا وعلويتها، وهذا يتراءى بجلاء في قصيدة (النبي المجهول).
أيّها الشّعبُ ! أنتَ طفلٌ صغيرٌ
لاعبٌ بالتّرابِ والليلُ مُغْسِ !
أنتَ في الكَوْنِ قوَّة ٌ، لم تَنسْسها فكرة ٌ، عبقريَّة ٌ، ذاتُ بأسِ
فالزمن بالنسبة للشعب زمن مظلم (الليل، ظلمات العصور)، وهو زمن مهدور (طفل صغير، لاعب بالتراب، أمس أمس).
ويتجلى هذا في قصيدة (أغاني الرعاة) حين يقارن الشابي الوحشة بالعدد:
فزَمَانُ الغابِ طفلٌ لاعبٌ
عَذْبٌ جميلْ
وزمانُ النَّاسِ شَيْخٌ
عابِسُ الوجهِ ثَقيلْ
يتمشَّى في مَلالٍ فَوْقَ هاتيكَ السّهولْ
فالزمن دليل الحياة وهو بالنسبة لمحيط الشاعر الموضوعي لا يدل إلا على الجمود والموت، فشوق الحياة لا يصيب بنعمته إلا من كان رقيق الفؤاد عظيم الطموح.
إن الزمن الموضوعي بالنسبة للشابي زمن هرم غير فاعل، زمن مستقيل من الحياة، زمن السبات في دورة الحياة البيولوجية.
يَجِيءُ الشِّتَاءُ، شِتَاءُ الضَّبَابِ
شِتَاءُ الثُّلُوجِ، شِتَاءُ الْمَطَـر
فَيَنْطَفِئ السِّحْرُ، سِحْرُ الغُصُونِ
وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
**كوثر خليل**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى