طفل بحجم سؤال

> قصة / إسماعيل واري

> كان شديد الارتباط بأبيه، لكن هذا الصبح أفاقه العويل والصراخ، ماذا جرى ؟!
هرع من فراشه وهو يحك جفنيه المثقلين بالأحلام التي ظلت ملتصقة بخياله، وهي تلتبس بشيء من الحكايات التي قصها عليه أبوه قبل خلوده إلى النوم.
لا يدري ما وقع، أمه تذرف دموعها، وهي جاثية على ركبتيها، تسند رأس زوجها وتضمه إليها، تبكيه، تختلط أنفاسها بنحيبها.
يقترب .. يسرق نظرة من خلسة الباب.. تنظر أمه إليه نظرة فيها شيء من الخاطر الذي لا يلوي على خير.
أباه، لا يتحرك، راقد.. بل قل جامد، تهيف به أمه إلى صدرها.
قالت: لقد مات من تعزه كل يوم، ذهب الغالي يا ابني، تشرئب عنقه نحوه، والعين ترمق هذا السكون الذي حل الجسد.
أصبح البيت كسوق عامر بالمعزين.. نساء يلطمن وجوههن.. ورجال يحوقلون بالمصيبة التي حلت.
يرتكن الطفل في زاوية من زوايا البيت، وهو يرى هذا المشهد الجنائزي، الذي لم يألفه من قبل .. لا ينبس ببنت شفة، لا يتكلم، غارق في سكون بارد.
السواد في كل مكان، إلا من هذا اللباس الأبيض الذي ارتدته أمه.
تحوم حول خاطره أفكار، تحاول فك التغيير الذي خيم على المنزل.
أناس يدلفون ويخرجون.. كلام.. صراخ.. همس.. ولولات.. وانطلقت الزغاريد التي تودع الفقيد.. لا يفهم هذا الخلط.. لقد ألف تلك النغمات الشجية التي تجود بها حناجر النساء في الأفراح، والآن يسمعها في هذا المقام.
جنازة أبيه فيها ركب، يتقدمهم هو، يسير، ويلتفت إلى الوراء، ينظر صوب أمه وهي في عتبة الباب.
بعد أن أخرجوه من النعش، ورشوه بماء الزهر، حفروا له حفرة وضعوه فيها، وحثوا عليه التراب، حفوا قبره بالسوسن والعوسج، وبعض أغصان الزيتون، يرى كل شيء، لكن لا يعرف شكل هذه الطقوس.
نفسه البريئة، مليئة بغرابة الاستفسارات، لكن دون جواب.
يعود إلى البيت والصمت يعم أرجاءه، فراغ بمعنى الحزن.. التصق بأمه، وهي تفرد شعر رأسه، وتبكي في خفوت.
قال: إلى أين ذهبوا بأبي؟!.. سؤال بسيط بحجم القدر، لا تعرف كيف ترد عليه.
قالت: لقد ذهب إلى السماء مع الملائكة.. إنه ينظر إلينا ويرانا.
قال: هل سيعود ليحكي لي قصة كما يفعل كل يوم؟
قالت: سيزورك ليروي لك كل الأحاجي.
استلقى في فراشه، وعيناه تنظران إلى سقف حجرته، يحملق في الصور المعلقة على الجدران، يتقلب، سئم، جفاه النوم.. دون جدوى، ينتظر النزول المرتقب.. يناجي ذاته، هل سيهبط من السماء؟ هل أقوم لأفتح له النوافذ وأشرعها كي ينفذ منها؟
تخيلات بمذاق السؤال.. لا يستوعبها، ولا يستسيغها.. غلبه النوم بعدما طال الانتظار والرجوع من الأعالي.
في الصباح، كان يوم جمعة.. ذهب وأمه لزيارة قبر أبيه والترحم عليه، وتلاوة بعض الآيات.. مقبرة بمقام البياض، ظل ساكنًا يقلب بعض ما قالت له أمه، الأب في السماء! وهو في القبر!.
بعد رجوعه، خرج إلى عتبة المنزل تحت ظل كرمة.. يرتب جميع الصور التي علقت بمخيلته، لكنه لا يستطيع تركيبها، تنفلت منه كل ما حاول سؤلها.. يرى أمامه صبيانًا يلعبون، ينظم إليهم.. انتصبوا وقالوا ماذا سنلعب.
قال: لنجرب لعبة الموت!!.
**قصة / إسماعيل واري**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى