الروائية المصرية عائشة أبو النور وثقافة الصمت

> د. وجدان الصائغ

> تشكل القاصة والروائية المصرية عائشة أبو النور وعبر نتاجها السردي خطًا سرديًا متقنًا ولاسيما في مجموعتها (ارحل لنلتقي) الصادرة في طبعتها الأولى عام 1992 وطبعتها الثانية عام 2003 عن مكتبة الأسرة؛ إذ نشهد توقًا واضحًا إلى الانعتاق من أسر القولبة التدوينية المكرورة للمعمار السردي، وسعيها إلى منح السرد فضاءً بصريًا جديدًا يقترب في تسطيراته من المعمار الطباعي لقصيدة النثر أو التفعيلة.
ليعيد إلى الذاكرة إشادة الروائي العالمي نجيب محفوظ بترميزاتها التي تجمع بين الشعري والسردي، وهو تمرد لا يفتت الفضاء التدويني للبنية السردية فقط، وإنما يطال تقنياتها الأساسية مثل بناء الحدث، ورسم الشخصية.
وسأقف على سبيل المثال عند قصتها (وسكتت شهرزاد) التي شكلت النص الأخير في المجموعة، وهو أمر له دلالته الواضحة، والعنونة بوصفها العتبة الأولى، فإنها تستجلب ملامح شهريار وشهرزاد معًا، إلا أن المخيال السردي يخرجهما من دائرة الراوي والمروي له ليمنحهما هوية سياسية وليكونا وجهين للحاكم والمحكوم، فلا يمكن النظر لشهريار على أنه الكينونة الإنسانية الراعفة بسبب من انتهاك الأنوثة (حرمة الوثاق الزوحي) وإنما نجد الخطاب السياسي قد أعطاه هوية محايثة ووجهًا يتماهى مع النسق السياسي المشغول بمباهج الأحلام عن الواقع المتخم بالحرمان واللوعة، ومثل هذا الانخطاف الترميزي ينسحب على شهرزاد .. قارن الآتي:
“وينتهي الكلام / وتسكت شهرزاد عن الكلام / وعن سرد القصص والحكايات / بعد أن أدركت مع الأيام جريمتها / وبأنها كي تنقذ رأسها من الفصل عن جسمها / شغلت شهريار عن كل شيء آخر في الحياة/ ساعدت تغييب عقله / وتخدير إرادته / حتى تفشت الفتن والمكائد / والمجاعات في البلاد / وشهريار غائب، غارق في حكايات الأمس / مشغولاً متلهفًا لسماع بقيتها مساء اليوم”.
تشكل شهرزاد الضمير الواخز ونبراته الراعفة التي تدين مسايرة الاستلاب الفكري الذي يمنح الذات الخاضعة لسلطة النفي الثقافي جرعة أكبر من أوكسجين الحياة (كي تنقذ رأسها من الفصل عن جسمها)، بل إن المتن يعري الخطاب الثقافي الذي يخضع لمتغيرات إيديولوجية تصادر الذات في خضم عارم من الحروب والهزائم والخيانات، وما يتولد عنها من جهل وفقر وتخلف، وتسعى هذه الاستهلالية إلى أن تضمر وبوعي فني تراجيديات الإنسان المعاصر وتشظياته المتوالية المرموز لها بـ(الفتن والمكائد والمجاعات)، وهي تعكس بالضرورة الوعي الحاد بالمحنة المتمظهر في إحساسات الذنب (بعد أن أدركت مع الأيام جريمتها) التي تلقي بظلالها على المشهد في إطار حركة ارتدادية تتوق لإعادة ترتيب الأوراق لخلطها في خضم فوضوية الأحداث السياسية، وهو وعي يؤشر ذروة الاغتراب المكاني والزمني والنفسي الذي تعالجه الأنا الساردة بثقافة الصمت التي هي نمط آخر من أنماط الرفض لما يجري تأمل ما ورد في هذا المنعطف السردي:
“كانت نية شهرزاد قد عقدت على عزمها/ بالسكوت والكف عن الكلام / بعد سرد قصتها الأخيرة / التي ستختتم بها سلسلتها / في ليلتها الأولى والأخيرة بعد الألف / وانطلق صوت شهرزاد يحكي ويقول/ بلغني أيها الملك الحكيم ذو الرأي الرشيد / أنه في العام ألفين من بعد الميلاد/ وعند أعتاب القرن الواحد والعشرين / سوف تشهد المملكة وما حولها من بلاد/ فوضى وانهيارات / حروب ومجاعات/ زلازل وفيضانات/ بطالة وجرائم / .... / وإنهم في ذلك الزمان سيتبعون دينا سياسيا جديدا / اسمه الديمقراطية / ويحكى أيها الملك الرشيد / أنه في ذلك الزمان الغريب / سوف يعبث العابثون بشعار الديمقراطية/ يمطونه ويلونونه وفق مصالح وأطماع / رؤسائهم، بالاتفاق مع أصحاب رؤوس الأموال”.
بالعودة إلى تاريخ التدوين النصي المثبت في أسفل المتن السردي 17/12/ 1992 نكتشف طرافة النبوءة التي يشهدها الراهن السياسي المتخم بالعزاءات والشعارات واللافتات الملونة، وتأسيسًا على هذا يمكن النظر إلى القصة على أنها بوابة استشرافية ترصد بدقة ما يحصل في هذه اللحظة الراعفة حيث الديمقراطية والحرية وشعارات تحرير الإنسان، بل إن هذه القصة النبوءة تتوغل بمخيال متفحص لتستكشف تفاصيل الجرح الناغر وعبر متواليات سردية متخمة بإحساسات الانكسار والخيبة التي تلمح غياب قيمة الفرد إزاء ضخامة اللافتات المستوردة التي لا تحمل إلا حرية الدمار وديمقراطية الفوضى.
القصة وبمكابدة جمالية تبلور خاتمة مضاءة بموت شهريار حين تضع شهرزاد الرامزة لضمير الإنسان العربي في مواجهة حادة مع شهريار الرامز للنموذج السياسي المكرور وقوالبه السائدة وعبر دايولوج راعف يستدرج القارئ إلى النهاية الصادمة لتكون القصة برمتها بيانًا ثقافيًا وسياسيًا يؤرخ لجراح الذاكرة العربية.
**د. وجدان الصائغ**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى