أدب المقاومة الوسيط

> أيمن اللبدي

> بين يدينا في هذا الموضع عدد من النصوص التي أريد لها أن تعطي نبذة عن الأدب الفلسطيني بعامة، فاجتمع فيهن ثالوث الثقافة الفلسطينية من جيل الوسط، وهذا الجيل الذي نقصد هو ذلك الذي أسس في مرحلة حاسمة من مراحل الانتقال الوجداني الفلسطيني سيما وأنه قد عاصر النكبة الكبرى في فلسطين، وشهد الفعل الأكثر سطوة في حياة هذا الشعب المناضل المظلوم، وهو فعل استلاب أرضه وتهجير أبنائه وشرخ تطوره الاجتماعي والوجداني في ضربة واحدة صغارًا، ثم سلخ عنفوان آمالهم كبارًا في النكسة بضياع ما تبقى من فلسطين.
الثالوث المقصود هو ثالوث (الشعر والسرد والنضال)، وفرضت هذه الأسماء المستجلب لها نصوصًا بعينها نفسها في دائرة التوثيق لهذه المرحلة وإن طال الزمن بعمر بعضهم – أطال الله في عمرهم – وحق الكتاب في أجل الآخرين فذهب بعضهم شهيدًا بفعل إجرام غاصب الأرض، والبعض الآخر قتيلاً في هوى المحبوبة المغتصبة فلسطين، ولكنهم بقوا أثرًا خالدًا أجمعين لا انفكاك عن تكريم هذا الجيل عبر الإبحار في نصوصه والوقوف على جناح الإبداع فيها.
وإذا كان الشعر الفلسطيني في جيل الوسط قد تجلّى على أيدي هؤلاء الرائعين من هارون إلى زياد وحتى درويش والقاسم وبينهم يمامة الشعر المقاوم فدوى طوقان، فإن السرد والرواية تشكّلت على أيدي الرائع غسان كنفاني، وإن بدت بعض ملامحها في متناول إميل حبيبي، ولعل بعض الأصدقاء يرى - وأشترك معه - في هذه الرؤيا، ومنهم أخي د. فاروق مواسي في أن حبيبي كتب نصوصًا أكثر منها عمومية عن أن تندرج تحت بناء الرواية المكتمل على الشكل الفني والتقني المعلوم عند درس النقد الأدبي في هذا اللون.
أما غسان كنفاني فقد كان فذًا بدرجة كبيرة أتاحت له أن يعيد تشكيل المسرح والفكرة معًا في قالب أقرب ما يكون إلى إعادة المشهد الحياتي تفصيليا تحسه من خلال دقته وخصائصه الفنية التامة في عمله أكثر مما تستطيع أن تلمح ذلك لدى حبيبي، وغسان أدرك الفرق البيّن في ما تتيحه الحكاية، وما يمكن أن تؤديه، ولذا استطاع أن ينقل جملاً عديدة لما يمكنها نقله وببراعة شديدة خلّدت هذه الأعمال ليس فقط في ذاتها، بل ومقياسًا مرجعيًا للقادم في مضمارها الذي نحته غسان على مقاس التوليد المندفع مع حركة الزمن.
وإذا كان هارون هو قيثارة شعراء جيل الوسط الفلسطيني في شدوه المنبسط ليونة وسلاسة أمامك في نصه (مع الغرباء) مثالاً لذلك، فإن زياد كان ومن على ذات المحجة الرقيقة يشتغل على النص الحامل بطاقة مروره في عنقه دون ما حاجة لسؤاله عنها (أناديكم)، بينما كانت أشعار درويش الأولى كما ترى معي من خلال معزوفته (سجّل أنا عربي) أكثر حميمية وأقل توليفًا مما ظهر له تاليًا من قصائد بحكم انتقاله من مرحلة شاعرية أقل تعقيدًا إلى مرحلة أكثر بحثًا عن الشعر قصدًا ولو كلّفه ذلك استخدام أدوات قد تعيد تشكيل مساحة أعلى بينه وبين معظم مساحة التلقي وخيمة قولبة النداء المباشر.
أما فدوى فهي بقيت على يقينها الفني في قصائدها، ولم يكن متعذرًا الحسم بذلك من خلال جملة قصائدها الأخيرة، وربما بعض الشيء بقي القاسم أيضًا على ذات وتيرته باستثناء بعض جديده الأخير، وفدوى في قصيدتها (هنا المنتظرة أمام جسر العبور) هي فدوى في (يا أحبائي) موعد ذات الصوت الممتلئ حنانًا وحنينًا والمنتظر أملاً لا بد سيعيد تشكيل الواقع مهما طال الزمن رافضًا رفضًا قاطعًا ما تراه أمامها، وما تمر به من واقع يحاول أن يتسلل ولو من باب خلفي إلى نصوصها، فلا يفلح أبدًا وتكون دومًا وصيتها هي الصمود ورفض الموت (يا أخا الروح لا تمت).
لن يتسع المجال في التقديم لتناول كل النصوص هنا، ولا لتحليلها، ولا لنقدها، فهذا شأن آخر، ولكن السمات التي يجدر الوقوف عندها في هذه النصوص هي سمات واحدة تقريبًا فيها، سمات أدب المقاومة الذي يرفض رفضًا قاطعًا الرضوخ إلى إرادة وفعل الغاصب، ويحرّض على البقاء أولاً في صموده وهويته الإنسانية والقومية، والبحث عن طريقة الخلاص ثانيًا دون قطيعة مع الذاكرة، ولا تهاونًا في مسألة التضحية، فلها أيضًا حقها، غسان كنفاني في روايته الخالدة ليس فقط أمات أصحاب الحل الفردي، ولكن ذكّرهم بأنهم لم يدقوا جدار الخزان، وهذا هو فعل اللاهثين وراء السلبية أيضًا، محمود درويش في سجّل أنا عربي حينما كان في داخل فلسطين وقبل المنفى كان يفتتح معركة عروبة ما تبقى بينما في نصه الآخر كان ينهيها بيقينه ونبوءة واضحة عابرون أنتم أيها الغرباء، وهذا قبل أن يطرأ على ما يقدمه مؤخرًا من تراجع مسجل عليه أيضًا تجاه الرضوخ لما يمليه الواقع كما بدأ يبشّر به مؤخراً.
والمتشائل لحبيبي هي ذات المعركة التي كانت تقف على أبوابها سجّل أنا عربي وخطاب القاسم في سوق البطالة مع عدو الشمس باعتبارها نتاج ذات المرحلة التي وجد بها الجزء الفلسطيني العربي المتبقي نفسه يخوضها في داخل الخط الأخضر بعد نكبة فلسطين وضياع نصفها تمامًا كقصيدة زياد أناديكم، بينما قصيدة هارون هاشم (مع الغرباء) وقصيدة فدوى (آهات أمام شباك التصاريح) تترجم المنفى الإجباري على جانب الخط الآخر والذي وجد فيه الفلسطيني نفسه يبحث أيضًا عن هويته ولو كان في ديار عربية، ويستنفذ كل أدواته في التشبث بها وتجذيرها أمام رياح التهديد العاتية من كل جانب في وجه هؤلاء الغرباء الذين يتحكمون في إذن المرور وهي تصاريحهم أو هؤلاء الآخرين من بني جلدة العروبة الذين بصروا بجزء من هذا الشعب في خيام وألفوه كذلك حتى حدِّ الحصار.
لقد أسس أدب المقاومة الوسيط من خلال هذه القامات الشعرية والروائية الرائعة إلى أدب حديث انتقل إلى أيد شابة تواصل مسيرة الأدب الفلسطيني الزاخر، وإذا كانت سمات المرحلة التي سبقت هي سمات البحث عن الهوية والتشبث بالذاكرة والدعوة إلى المقاومة، ووضع الحل في خانة النضال بعيدًا عن الحلول الفردية أو السلبية، فإن مرحلة تالية نشأت بعد انطلاق فعل المقاومة، وهو الذي استمرّت فيه عطاءات مبدعة أيضًا لسميح ودرويش كما لغسان وحبيبي وإجمالا لجميعهم، ولكن هذا الرعيل المؤسس بقي على حدود تلك المجايلة بحدّيها ما قبل وما بعد المقاومة، ولم يقيّض له أن يسهم في المرحلة القائمة منذ التسعينيات بثمرة تذكر وخاصة مرحلة الانتفاضة تحديدًا والتحديات المرتبطة بمصيريًّتها.
**أيمن اللبدي**

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى