الــمــارد

> قصة/ د. محمود عبد الجليل

> “شيءٌ ما يتحرَّكُ في القارورة .. يبدو أنَّ الجدَّة كانت صادقة .. إنَّهم قريبون جدًّا”.
واقفًا تُودِّعُ آخِر المهمومين العائدين إلى مساكن القرية، ترمُقُ الظِّلال التي تُشير إلى انتِصاف المسافة بين العَصر والغُروب، ربَّما تُفلحُ هذه الليلة حين يشتدّ الظلام، وبينكَ وبين الفجرِ خُطوتان وإن بدَا أَبْعدَ.
أمَّا الآن فعليكَ أنْ تمتطيَ ظَهْرَ جَوادكَ المعدني المسمَّى بـ(الجرَّار الزِّراعي)، وتعملَ لساعتين أُخريَيْن، ثم تُدركَ المغرب في آخِر وقته وتُصلِّيَ العشاء، وتُعدَّ السرير العُشبي أسفل الجرَّار وتنام.
لا بُدَّ أنَّ تكون هناك وراء التلِّ حين يشتدّ الظلام؛ ويبقى بينك وبين الفجر خُطوتان وإنْ بدَا أبعدَ .. طيورٌ ليليَّة، وأشجارٌ شبحيةٌ جافَّةٌ، وليلٌ خريفيٌّ ينسدلُ كانسِدال العُمر على وجْه طاعن في السنِّ، وصريرُ حشراتٍ وهَوام تملأ المكان، لا تحاول أنْ تُحدِّد مكان انبِعاثها؛ فهي في الحقيقة تنبعثُ من مخاوفكَ ورهبتكَ أكثر من انبِعاثها ممَّا حولكَ.
قالت لي الجدَّة وهي تُرقِّصني صغيرًا: “ماردٌ واحدٌ يكفي، ولكنَّ آخَرين يتمَلمَلُون في القَماقم؛ يترصَّدون إنسًا سعيدَ الحظِّ في مَرْمَى نِدائهم حين يشتدّ الظَّلام ويصبحُ الفجر على مَرْمَى كلمة، ماردٌ واحدٌ يُلبِّي، وعِفريتٌ يأتيكَ بالعرش قبل أنْ تقومَ من مقامكَ”.
الأمّ عاكفةٌ على الموتِ كما ينبغي لمريضِ سرطانِ الدمِ؛ والأبُ يحملُ همَّ ولدٍ وخمسِ بناتٍ وأُمٍّ عجوزٍ في صُرَّةٍ وفأسٍ، وقَراريطَ انتزَعُوها منه قسرًا، يُسرع الخطى منكس الرأس إذ يمرُ عليها، يتحيَّنُ المواسمَ ليستوفيَ أحلامَه التي تَعلَّم كيفَ يُروِّضها؛ وإنْ ظلَّ بعضها عَصيًّا شَرودًا.
ويومَها جرَّبت - صغيرًا - أنْ تسيرَ وحيدًا في الظَّلام، تبحث عن المارد الذي يأتيكَ بالعرش، ولما يأتِكَ.
غيرَ أنَّ حُلمًا بالعِفريت الذي يأتيك بالعرش لم يُبارحْ مُخيلتكَ، والجدَّة العجوز - وهي تحتضرُ - ما زالتْ تروي بكلماتها شجرة النار: “ماردٌ واحدٌ يجتازُ القُمقُم، وينفُث النَّار، ويُسجِّر البحر، فابحثْ عنه”.
جرَّبت أنْ تبيتَ في الجبَّانة ؟ بل جرَّبت أنْ تبيتَ داخل القبرِ ليلةً ؟، جرَّبت أنْ تعبُر النهر بقاربكَ الصغير آخِر الليل؟ جرَّبتَ أنْ تسير في الطريق القديمة المهجورة التي شَهِدَتْ حادثَ قتلٍ لا يمكن أنْ يسقطَ من ذاكرة القرية ؟، جرَّبت أنْ تقتل القطَّة السوداء وتشربَ دمَها؟ ولم يظهر العِفريت.
ثمَّة قارورةٌ مُعتمة، تصدمُها الفأس ولا تنكسرُ، غريبٌ شكلُها، تُوحِي برَهْبةٍ طازجة تسكنُها، ولكنَّ الجدَّة قالت: “إنَّ العِفريت لا ينبعُ كالماءِ، ولا يسكنُ القَوارير المعتمة”، هل تتخيَّل كيفَ يكون شكلُه آخِر الليل في قارورةٍ شفَّافة؟، إذًا هو آخِر الليل، وأنت في المكان وراء التلِّ، بإصرار تبحثُ والمشعل في يدكَ، يشقّ هدوءَ الليل صوتٌ كالجملة المعترِضة، تعودُ من وَراء التلِّ مُسرعًا؛ وجَوادكَ المعدنيّ يصهلُ مُغضبًا؛ إذ يمتَطِيه اللصوص.
يُخرِجون لكَ الألسنةَ في الظَّلام، لا تراها، ولكن تحسّ بالتِماعها كالسِّهام إنْ كان شيء كهذا ممكنًا، تولولُ كالنساءِ، وأنت توقنُ أنَّهم سرَقوكَ، وفي الصَّباح يَقتادونكَ إلى المخفر بتهمة تَبدِيد الأمانة، الأمانة التي منّوا بها عليكَ، وسرَقُوها منكَ، وجدلوا منها مشنقةً تلتفّ حول عُنقِ حَياتكَ؛ ومُستقبل خمسِ بناتٍ.
لا يهمّ أنت، مَنْ لخمس كوماتٍ من اللحم ؟ مَن لهنَّ والشتاءُ عمَّا قريبٍ يدقّ أبوابَ السماءِِ بزَمهَرِيره وسُيولِه ؟ لهنَّ حِضنُ اللصِّ، أو حانةُ الشَّراب .. تتردَّد كلمات الجدَّة في أُذنِ وعيكَ:
“النار! أَبْقِ بقُربك نارًا .. خُلِقَ من النار وللنار يعودُ .. والنارُ وَقودُها النار، والنارُ لا يُطفِئها إلا النارُ...”.
ثمَّةَ نارٌ تحرقُ أحشاءكَ .. ثمَّةَ لهيبٌ من اليأس يَقتادكَ للهاوية .. ثمَّة ولدٌ يشتعلُ في المخفر، والبيوت القريبةُ تُلقِي برِجالها، كما تضعُ القطَّة السَّوداء جِراءَها .. ينبعثُ المَرَدةُ من القوارير الشَّفَّافة .. ترتجفُ القرية بآلاف الهتافات .. المخفر يشتَعِلُ .. والولد اليتيم ما زال يصرخُ .. والنار وَقودُها النارُ .. والنار لا يُطفِئُها إلا النار.. والمشاعلُ كالشّهبِ أو كالعَواصف تدكّ قصر اللّصوص، وبدلَ أنْ تأتيَ بالعَرْشِ تأتي عليه، والدائرة تتَّسعُ، والبيوت الثائرة تصيرُ قرًى ثائرة .. والفجرُ يُطلّ من وَراء الأكمة القريبة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى