دلالة الموت عند محمود درويش

> د. حسن الرموتي

> إن الوضع الوجودي للإنسان، هو في العمق تعبير عن عجزه أمام الموت الذي يعصف به، ويغير كل شيء، لذلك أدرك الشاعر منذ البداية أن المنية أمر محتوم، لا مفر منه، يقول طرفة:
لَعَمْرُكَ إِنَّ المَوتَ مَا أَخْطَأَ الفَتَـى
لَكَالطِّـوَلِ المُرْخَى وثِنْيَاهُ بِاليَـدِ
ونظرة الشاعر الجاهلي للموت في الأعم هي نظرة تحكمها علاقته بالطبيعة، لأنها مجال بحثه وتجاربه، فالسيف والفرس والبطولة والخمرة والمرأة هي سلاحه لمقاومة الموت في انفتاح الطبيعة أمامه.
أما الشاعر العربي المعاصر في ظل التجربة التي يعيشها، تجربة الهزائم والإخفاقات المتوالية، من الخليج إلى المحيط، هذه الإخفاقات ولدت لديه هذا اليأس والاغتراب والحزن الذي ميز الشعر العربي المعاصر، هذه المعاناة أثمرت.
وبالعودة إلى المنجز الشعري المعاصر سندرك كيف شكل الموت هاجسًا شعريًا في تجربة الشعراء، وهو عندهم لا يعني الاستسلام والانهزام، بل تحمل مسئولية الحياة، فالصورة التي يقدمها لا تتسم بالسقوط والفناء، إنه الموت حين يتجدد ويبعث على الحياة كما الحال في قصائد الشعراء الرواد مثل (أدونيس وخليل حاوي والسياب ونازك الملائكة وأمل دنقل)، وإن اختلفت الرؤية الفنية فإن الموت لا يخرج عن معاني التجدد والبعث والانتصار والحياة.
وسنركز في هذا الحيز على رؤية الشاعر محمود درويش ومن خلال قصيدته (جدارية)، أولاً لأن هذه القصيدة كتبها درويش في لحظة كان إحساس الشاعر بالموت كبيرًا، في فيينا عندما أجرى عملية جراحية على القلب، ثم شهادة الشاعر حول هذا النص حين يقول: «إذا كان لا بد من تخليص فلتكن جدارية .. لقد كنت أرشح هذه القصيدة لتكون هويتي الشعرية»، ثم ما كتبه الشاعر إلى صديقه سميح القاسم في إحدى رسائله يقول: «سافرت من الحياة إلى الموت في فيينا وعدت من الموت إلى الحياة ... اخترقت غابة من المسامير صدري .. ذابت طاقتي ... وحين أعادوني من نشوة النوم إلى عذاب اليقظة ... لقد أعادوني من الموت الذي استمر دقيقتين ... أعادوني من النشوة إلى الوجع أهذا هو الموت ؟ ما أجمله ! أهذا هو الفارق بين الحياة والموت ما أكبره.! ... لقد أزعجوني في نومي الأبيض». لهذه الاعتبارات تشكل هذه القصيدة – الديوان- واحدة من أجمل ما كتب درويش، إن درويش في هذا النص كان يتهيأ للموت، لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية:
لا شيءَ يبقى على حالِه
للولادة وَقْتٌ
وللموت وقتٌ
وللصمت وَقْتٌ
ولا شيءَ يبقى على حالِهِ ...
كُلُ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ
لكن الموت عند درويش هو موت مادي، فيزيائي، الموت لا ينال من الإنسان سوى الجانب الطيني منه، أما روح الأشياء فهي قادرة على مقاومة الموت وهزمه، إن الموت الذي يخشاه الشاعر هو موت القصيدة لديه بمعنى عجزه عن الإبداع، وموت قدرته على الكتابة، لأن خلود الأثر الأدبي هو القادر على مقاومة الموت:
أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ . أَنت مسئولٌ عن الطينيِّ في
البشريِّ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها
إن تجربة الموت عند الشاعر هي تجربة عميقة، لأنه مات لدقيقتين ورأى ما رأى، ليعود إلى الحياة، ليعود إلى الوجع والألم، لذلك تساءل لماذا أعادوني من النشوة ؟، فيصبح الموت هو الحياة، والحياة هي المعاناة، ومن هنا يبدو هذا الاستعداد للموت، وهذا الترتيب للرحيل، ترتيب الجنازة، وتأبين نفسه بنفسه، دعوته للموت بالانتظار ليتمم هذه المراسيم، ثم وصيته الأخيرة:
أيها الموت انتظرني خارج الأرض،
انتظرني في بلادك ...
فيا موت انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهش
وفي وصيته يستمر هذا الخلود والأمل حتى في الموت:
لا تضعوا عل قبري البنفسج فهو زهر
المحبطين
ضعوا على التابوت سبع
سنابل خضراء إن وجدت
وبعض شقائق النعمان
والشاعر في موته المؤقت يصادف هذا الخلود الذي يسعى إليه، أقصد خلود قصيدته في الذاكرة الإنسانية، كما احتفظ التاريخ بنصوص الشعراء والكتاب الكبار، وفي غيبوبته يرى:
رأيت ريني شار
يجلس مع هيدجر
على بعد مترين مني
رأيتهما يشربان النبيذ
ولا يبحثان عن الشعر
رأيت المعري يطرد نقاده
من قصيدته
لست أعمى
لأبصر ما تبصرون
بل إن الشاعر في انتصاره على الموت يشكل صورة مأساوية وسوداء له، كاشفًا عن ضعفه، لأنه لا يعيش حياته كباقي الكائنات، وفي جبروته لا ينال إلا من الجسد، ومن براءة الطفولة، أما الكتابة التي تخط على الصخور وعلى الورقة فمصيرها البقاء، إننا نكتشف هذا التشفي والاستهزاء في مواجهة الموت:
كأنك المنفي بين الكائنات
ووحدك المنفي
لا تحيا
حياتك .. ما حياتك غير موتي
لا تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفال
من عطش الحليب إلى الحليب
هكذا يعري درويش عن جبن الموت، عن ضعفه وعجزه أمام الخلود، خلود الآثار المادية والمعنوية، لذلك يستحضر عناصر عديدة، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، بلاد الرافدين، طرفة، المتنبي، أبي العلاء، هيدجر، أيوب.
وخلاصة القول إن محمود درويش يقف من الموت موقف المنتصر المتشفي الذي يكشف جبنه وضعفه ومكره.
هذه لمحة تبرز مفهوم الموت من المنظور الدرويشي، وهي نظرة تحكمها معاناة الذات المبدعة، التي اكتوت بحرقة الكتابة ومرارة المنفى وسعت إلى الخلود عن طريق الإبداع، نص ديوان جدارية سيظل خالدًا في ذاكرة الإنسانية الشعرية، كما احتفظت المعلقات ببريقها، وظل طرفة وامرؤ القيس وغيره حاضرًا بيننا، لذلك نقول: “إن فداحة الغياب يقابلها ألق الحضور”.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى