ذات عدن .. ذات زمن

> أ. محمد عمر بحاح

>
 أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح
ماذا أكتب عن عدن ؟!
سؤال مرهق للنفس والروح بعد كل هذه السنين التي انقطعت فيها عن النشر لا عن الكتابة .. وعن عدن.
أحببتها كما لم أحب مدينة قط، على كثرة ما رأيت وعشت في مدن في الشرق والغرب.
ثمة مدن ما أن تراها حتى تذوب عشقًا فيها.. عدن واحدة من هذه المدن .. مدينة موصولة بالبحر، وبالقلب .. وبسبب موقعها الجغرافي الفريد كملتقى ملاحي بين الشرق والغرب أصبحت المركز التجاري لبلاد العرب وقبلة الوافدين، وملتقى التيارات الإنسانية، والمنجزات الفكرية والإبداعية لمختلف الأعراق والأديان.. لكن معجرة الجغرافيا والموقع الاستراتيجي لعدن، جعلها هدفًا لأطماع قوى كثيرة داخلية وخارجية ولتنافس القوى الكبرى الاقليمية والدولية في الماضي والحاضر، ولن تسلم منه في المستقبل.
هذه حقيقة تعرفها عدن وقد دفعت وتدفع أثمانها باهظة. وفي ذاكرة المدينة تاريخ تستحضره من الغزوات والحروب وظلها البغيض ممن كانت تعتبرهم إخوة وبني جلدة (حرب 94 و 2015) ، ومن غزاة أجانب: برتغاليين، هولنديين، فرنسيين، أتراك، وليس آخرهم الإنجليز الذين احتلوها قرابة أكثر من قرن وربع القرن.
وأي كان رأينا في الاستعمار إلا أنه يظل احتلالًا لأرض وشعب آخر، ونعترف له مع ذلك بأن البريطانيين خلال السنوات الاخيرة من حكمهم لعدن قد استنهضوا في هذه المدينة روح التجديد والابتكار، وجعلوا منها مدينة عصرية ومجتمعا مدنيًا في محيط صحراوي بدوي وقبلي، فصارت عدن معجزة المدن ورابع ميناء في العالم الحديث .
وحين جئتها طفلًا في العاشرة سنة (ستين) من القرن الماضي، كانت عدن في اوج ازدهارها الاقتصادي والتجاري والثقافي، وكنت كطفل قادم من القرية في منتهى اندهاشي وأنا أرى كل شيء خارج مألوفي.. الطرقات الإسفلتية، الشوارع الفسيحة، الأسواق المكتظة ببضائع العالم، السفن التي تملأ الميناء، تفرغ حمولتها أو تحمل أخرى إلى موانئ الدنيا، حيث صارت عدن ميناء حرا ومنطقة تجارة حرة.
وازدادت دهشتي عندما وجدت المدينة غاصة بالأجناس .. الأديان .. اللغات .. اللهجات .. الثقافات والملابس التقليدية والحديثة . وكنت وأنا أمشي في شوارع كريتر أو التواهي أسمع إلى جانب العدنية، الأردية، الفارسية، الانجليزية، الصومالية، ولغات ولهجات أقليات أخرى كما عرفت فيما بعد، وكلهم يتعايشون في أمان وسلام، وحيث يوجد الأمن والأمان يكون الازدهار.
ماذا سأكتب عن عدن ؟!
وأنا أحمل عشقي .. ذكرياتي .. ذاكرتي الملأى بالأحداث والأشخاص والصور والكتب .. طفولتي، شبابي، رجولتي، والكهل الذي صرته،
والأحلام التي لم تتحقق.. والتي حملتها .. حملناها يومًا .. وحين أتطلع اليها اليوم تحت كاهل العمر وخيبات السنين أجدها كانت صغيرة ولم تكن مستحيلة.
ماذا أكتب عن عدن ؟!
هل أكتب عن الشوارع، الحوافي، الأحياء، كما كانت في ستينيات القرن الماضي .. عن الأسواق، المقاهي، دور السينما والأفلام التي سحرت الطفل الذي كنته، عن كلية بلقيس وأصدقاء الدراسة، ومدرسينا القامات حسين حبيشي، أحمد المروني، قاسم غالب، ومحمد سالم شهاب. عن الأصدقاء المزروعين في كل زاوية في حافة القاضي، حافة حسين، العيدروس، القطيع، الخساف أو في الشيخ عثمان، القاهرة، المنصورة، المسبح، أو في المعلا، التواهي، القلوعة، أو البريقة.
عشت فيها، في كل مدنها، أحيائها، أو مشيت في شوارعها، أزقتها، وفي كل مكان لي أهل أو أصدقاء، وذكريات العمر الجميل، ماراح منه، وما سيأتي ولا أدري أيهما أجمل ؟! الذي مضى منه.. أم أجمل أيامنا تلك التي لم تأت بعد، كما كان يقول ناظم حكمت.. وكنت وما زلت من عشاقه، رغم ان تلك الأيام التي قال عنها لم تأت !
أسير في شوارع كريتر حيث عبق الفل والكاذي وروائح العطور والبخور، والبهارات الهندية والزعفران، وأرنو نحو منارة عدن التي يقول البعض إنها ما تبقى من مسجد قديم، اندثر المسجد لعوامل لا يعرفها احد وبقيت المنارة! وقائل إنها منار لإرشاد السفن يوم كانت عدن هي الفرضة أو الميناء قبل ان تصير المعلا هي الميناء ومرسى السفن.
وأمام المنارة ومبنى البريد ومكتبة مسواط المنزل الذي سكنه الشاعر الفرنسي العظيم آرثر رامبو.. يا إلهي هل كان رامبو هنا حقا، عاش في عدن ؟ سكن في هذا المنزل، وأي ظروف قادته من فرنسا ليستقر به الحال في هذه المدينة؟!! .
أحقًا أن الطفل الذي كنته يخطو على الطرقات نفسها التي مشى عليها رامبو العظيم ؟! في عدن التي قال عنها في رسائله إلى أمه إنها مدينة حارة جدا، لا شجر فيها ولا ماء .. كيف احتملت العيش فيها وأنت القادم من باريس، بلد العلم والنور والجمال ونهر السين ؟!!
أي سحر فيك يا عدن حتى يأتي إليك الناس من أقاصي الدنيا ؟ العامة والمشاهير؟! ذات يوم سبقه مواطنه الفرنسي توني بِس وأسس امبراطوريته التجارية.. هنا في عدن التي تنوعت بين خطوط إمداد الفحم قبل أن يحل النفط كوقود، وأحواض السفن، وحتى وكالة السيارات ..
وغير بعيد تقودني خطاي إلى الروزميت حيث نزل الزعيم الفرنسي شارل ديجول في منزل هنا في طريقه إلى لندن يوم كان بطل المقاومة الفرنسية ضد الغزو النازي لبلاده خلال الحرب العالمية الثانية.
حيث أسير، أو تسير إذا جئتها ذات يوم ويسير أهل عدن كل يوم ثمة تاريخ وآثار وعبق ذكريات وبطولات، وأشعار وأغان ومكتبات وصحف وتلاميذ يمشون إلى المدارس يحملون حقائبهم مبتدئين الخطوة الاولى نحو المستقبل، وأحلامًا قادمة ربما تكون أجمل من الواقع . ولو كانوا يدرون أنه أسوأ … لرضوا بحاضرهم الذي لم يعد له وجود اليوم!!.
الحياة تنبض في عدن .. الحركة لا تهدأ لا في نهار ولا في ليل .. شارع الطويل وامتداده شارع الزعفران وتفرعاتهما تكتض بالحوانيت والبضائع، بالمشترين، بكل ما يخطر على بالك، ملابس، أقمشة، عطور ، ساعات ، كاميرات، أحزمة، مصوغات، لعب أطفال ، حتى لو لم تشترِ تكفيك بهجة الفرجة وروائح البخور والند والألوان واللهجات واللغات وأصوات الباعة ، وسلوك نفس الشوارع مرات ومرات دون أن تحس بالملل.
ذات يوم عبر إليها الزعيم المصري أبو الأمة سعد زعلول .. زعيم ثورة 1919. جاء به الانجليز الذين كانوا يحتلون مصر منفيًا إلى عدن التي كانت هي الأخرى مستعمرة بريطانية، وسجنوه في المبنى الواقع فوق جبل حديد، ريثما يتم ترحيله إلى جزر سيشيل .. لكن الزعيم استغل الوقت الذي قضاه في منفاه المؤقت في عدن في تقوية لغته الإنجليزية . كلما مررت من جبل حديد الكالح السواد أرنو إلى حجارة ذلك المبنى الوحيد الذي لا يعرف الا القليل انه كان منفى لواحد من اعظم زعماء مصر الذين قاوموا الاحتلال البريطاني لبلادهم. هذا المبنى نفسه سيصبح مدرسة لإعداد القادة ورجال المستقبل من ابناء السلاطين والمشايخ والمميزين .. ومن الذين درسوا فيها السلطان الثائر أحمد عبدالله الفضلي سلطان السلطنة الفضلية ، والشيخ محمد فريد العولقي وزير خارجية اتحاد الجنوب العربي ، وقحطان محمد الشعبي أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
وفي هذه المدرسة الرائدة درس السلطان قابوس، سلطان سلطنة عمان، وكانت أمنية عمره أن يجعل من بلاده نسخة من عدن لما رأى من التطور والازدهار فيها، وقد حقق لعُمان نهضة مدنية وجعل من مسقط واحدة من أجمل وأنظف مدن المنطقة . بينما أن الذين تولوا حكم عدن حولوها خلال نفس الفترة إلى مدينة منكوبة لا كهرباء فيها ولا ماء وتطفح فيها المجاري ويموت فيها الناس بالكوليرا ومن الحر والقهر !!.
الناس لا يتطلعون اليوم إلى الأعلى حيث التاريخ الذي صنع قادة دول وزعماء سلطنات، بل إلى الأسفل حيث السراديب المظلمة لمخازن ومستودعات السلاح التي تنفجر كلما نشبت حرب، أو وقع اعتداء على عدن، فتحيل نهارها وليلها إلى انفجارات ولهب ودخان وموت . ولا أحد يفكر في نقلها بعيدا عن السكان المدنيين الذين يموت منهم العشرات مع كل انفجار يحدث. ومع ذلك تستمر الحياة والناس والعربات تمر بقرب جبل حديد يتطلعون إليه بدون مبالاة ولا أحد منهم يطالب بنقل السلاح المخزون فيه إلى مكان آخر بعيدا عن التجمعات السكانية، وكأنما ينتظرون موعد الانفجار القادم !!!.
(2)
هو سؤال مرهق .. متى يعود ذلك الزمن ؟!
عندما يسألك صديق، وحين تبحث فلا تجده يعفيك من الجواب :
إنه فقط يعود في ذاكرتنا !
هكذا كتب لي زميل دراستي في المعهد الديني بغيل باوزير في حضرموت بعد أن قرأ مقالي السابق ذات عدن.. ذات زمن، وعبد الله بن أحمد واحد من أنبه التلاميذ الذين عرفتهم في المعهد وجاء عدن وعاش فيها فترة، وكان يزورني في مكتبي في صحيفة ( 14 اكتوبر) في كريتر أمام الهريش أو في مكتبي في (الثوري) في قصر الشكر قصر السلطان العبدلي في الخليج الأمامي، فهو يعرف عدن جيدًا، مرة لأنه عاش فيها، ومرة لأنه مؤرخ ويعرف جيدا مآلات التاريخ !!
كان عليه فقط أن يضيف أنه الزمن يسيل من بين أصابعنا كما الرمل.
ولكن لماذا ينتهي كل شيء إلى تلك النهايات المحزنة ؟!!
هل ثمة من يعيد الزمن إلى عدن ، أو يعيد عدن إلى الزمن ؟!!
من كان مثلي لا يملك سوى الكتابة ، وقد صمت فترة طويلة ، متابعًا من على البعد، وعن كثب مجرى الأحداث والتاريخ خلال العقود الاخيرة في عدن والوطن والعالم ليقولا كلمتهما فيما جرى ويجري.
وقد فضلت حين العودة أن أتبع الأسلوب الأدبي في الكتابة لأنه الأفضل لدي، ولأني كاتب قصة قصيرة في الأول والآخر ضل طريقه يوما إلى عالم الصحافة المرهق والمتعب ، ففي داخلي شحنة متفجرة من العواطف والقلق والغضب، أخشى أن اتبعت الاسلوب المباشر أن أصيب بشظاياه كثيرين، بعضهم يستحق، والبعض قد لايستحق !!
وحتى مع ذلك فقد لاحظني زميل الدراسة من ايام المعهد الدكتور نجيب بكير مستلًا سيفي، معنفًا بأسلوب هادئ كل من ضيعوا أحلامنا وسلبوا مدينة عدن كل حللها الجميلة !!
وهذا لعمري قراءة في العمق ولما وراء السطور لمقالي ذاك، من صديق عزيز هو الآخر، رافق كتاباتي المبكرة وتحمل مع بقية زملاء المعهد عصبيتي، لكن كان ذلك في ماض بعيد من شقاوات الصبا ، وقد أدبنا الزمن أيما تأديب !!
أما الزميلة هدى هادي فقد عبرت عن ألمها العدني بعد قراءتها للمقال قائلة قلبي موجوع عليها، فعدن لم تتعاف منذ الاستقلال !! نعم عزيزتي قلوبنا جميعًا موجوعة حد الألم وأهلنا في عدن يألمون أكثر منا وهم يرون مدينتهم تسلب منهم أمام أعينهم لكن عزاءهم انهم لا يبكون كما نبكي بل يغزلون من خيوط أدمعهم أشعة شمس تشرق في عدن من جديد .
كثيرون علقوا على (ذات عدن .. ذات زمن)، منهم الزميلة الشاعرة هدى العطاس، التي قالت كلمات قليلة عميقة عن خلجاتي والمدينة.. والزميل الدكتور سمير شيباني الذي قال شيئا عن جمال القلم والقلب والعقل ، وثمة آخرين أمثال د.علي الزامكي ود.علي المصفري، وصديقي السوري ماهر حداد الذي كتب من فرنسا : لازم من زمان تكتب .
ماذا أكتب عن عدن؟!!
أرهقني السؤال كما أرقني الجواب.. فلم نجد لكل سؤال إجابة، وليس السؤال من البساطة كما يبدو.. فثمة فكرة تجول، وثمة حياة ، أحداث ، بشر ، تاريخ ، حيوات، مصائر ، حقائق ، غرائب، صور ، وظلال.. ثمة زمان ، ومكان ، وشخوص ، وأبطال، شهداء ، وضحايا ، وجرحى ومفقودين، ومهجرين ابتلعهم البحر، ومنفيين عاشوا وماتوا ودفنوا في أرض غريبة !
ثمة من خطفوا وظل أهلهم ينتظرونهم ولم يعودوا .. ثم أطفال كبروا ولم يروا آباءهم ، وثم أمهات يذكرن أبناءهن ، ونساء يذكرن أزواجهن المعلقة صورهم على الجدران والمحفورة في القلب.. ثمة أشياء تذكر بهم، ثمة عدن .. ثم وطن.
ثمة مرضى يموتون بالكوليرا ولا يجدون الدواء وبأمراض أخرى، أو يشدون الرحال إلى مدن أو بلدان أخرى كان مرضاها يأتون للاستشفاء في مستشفياتها، يوم كان مستشفى الملكة في خور مكسر من أكبر وأحدث مشافي الشرق الأوسط ، يوم لم تكن هناك عناية بصحة الإنسان في الجزيرة والخليج عرفت عدن الطب الحديث، أنشئ فيها أول مستشفى سنة 1880م هو المستشفى الأهلي، وساهم الأهالي في تكاليف إنشائه، وفي 1886م بني في المعلا مستشفى الأمراض المعدية ، وقبلها بعام بني مستشفى صغير بالشيخ عثمان، كما وتأسس فيها سنة 1923 مستشفى الجذام، وفي 1927 افتتح في التواهي المستشفى الأوروبي للجذري ، وبدأ الاهتمام بصحة الأم والطفل منذ العام 1939 بافتتاح عيادة الكنين في كريتر.
وكان مستشفى الملكة الذي وضعت حجر الأساس ملكة المملكة المتحدة اليزابيث أثناء زيارتها لعدن سنة 1954 ذروة المستوى الصحي الذي شهدته عدن خلال هذه الحقبة. هذا غير المستشفيات الخاصة بأفراد الجيش والشرطة وعمال وموظفي مصافي عدن ، والعيادات والوحدات الصحية والمستشفيات بعد الاستقلال وأكبرها مستشفى الصداقة في الشيخ عثمان والمستشفيات الخاصة كمستشفى النقيب والرازي والبريهي وغيرها. ومع كل ذلك فقد شهدت السنوات الاخيرة تدهورًا في الوضع الصحي للمدينة وفي مستوى الخدمات المقدمة للسكان.
ويبدو أن ذلك كان سياسة ممنهجة للانتقام من عدن وسكانها وكل ما يمثلانه من ريادة في كافة المجالات، وقد بلغ الحقد برأس الدولة بعد حرب 1994 أنه أقسم ليعيدنها قرية، ولم يكتف بذلك، بل وضع ذلك الوصف ضمن المنهاج الدراسي فكانوا يدرسون التلاميذ في الصف الثامن (عدن قريتي الجميلة) في مادة القراءة فأي وقاحة أكبر من ذلك ؟!!
وواضح الآن أن تلك كانت سياسة ممنهجة سار عليها نظام صنعاء لتدمير كل ما هو جميل في عدن ، وحرمانها من أية مشاريع إنتاجية أو خدمية.
ومع ذلك بقيت عدن مدينة عصية على الكسر وعلى النسيان.
(3)
يخطئ من يظن أن عدن هي مدينة للتجارة والأسواق الحرة ، أو حين تمشي في شوارعها وأزقتها وحوافيها لن تسلمك إلا إلى الحوانيت والدكاكين ومستودعات البضائع والتجار والباعة والمشترين والحمالين، والمقاهي الساهرة التي لا تقفل أبوابها لا في نهار ولا ليل، وزحمة البيوت المتلاصقة في حر المدينة اللاهب.
كل هذا ستجده في أسواق المدينة وشوارعها وأحيائها الممتدة التي تضج فيها الحياة حتى أنها لتبدو كسوق كبير لا نهاية له ولا لإغراء بضائعه القادمة من كل العالم ، تستورده وتعيد تصديره.
لعدن وجه آخر، لا يمكن أن تزعم أنك تعرفه دون أن تراه وتكتشفه لأنه الجسر الذي يقودك إليها إلى النور الذي يشع منها ، إلى شمس عدن المشرقة أبدا، والتي تجعل منها مدينة للعلم والثقافة والتنوير.
ذلك التاريخ الذي لا يريد أحد أن يراه .. وذلك التاريخ الذي يريدون طمسه .. لأنه يعني الهوية .. عدن ليست الجدران ، ولا الدكاكين ، ولا التجارة ، ولا الميناء الذي شكل جزءًا من تاريخها وهويتها ، ولا الأراضي التي استولى عليها حاطبو الليل وسراق الاوطان. عدن ماض عريق لا يزول ، وحاضر وأن تعقد لكنه الطريق إلى مستقبل يخشاه البعض لكنه بالرغم عنهم يتشكل.
عدن مدينة كلما اقتربت منها فتحت لك مكنون أسرارها ولكنها لا تعطيك شفرتها الخاصة حتى تثق بأنك تحبها ، انتسبت إليها ، لا تشترط أن تكون ولدت فيها.. هذه خاصية عدنية ليست بمقدور كل الناس .. هذه خاصية لا علاقة لها بالسكن، بل بالروح .. بالحب .. بمدى العلاقة التي تسمح بها لك ! يوم تحس بأنك أصبحت واحدًا منها تعطيك هوية الانتماء إليها ، إلى روحها، ألقها، ماضيها الممتد في جذور التاريخ وعمق الخليقة، حيث أراد لها الخالق وقال لها كوني فكانت عدن .
أزعم أن هذه المدينة أعطتني هويتها منذ جئتها ذات بحر .. ذات قرن ، طفلا في العاشرة لم ير الدنيا حتى رأى عدن ، ورأى كل الدنيا فلم يرها مثل عدن!
أحجية ؟
قولوا ما شئتم، فهذه المدينة لم تغادرني حتى بعد أن غادرتها، ولم تغدر بي يوما لكن كثيرين غدروا بي وبها !!
بعد دهشة الطفل الاولى الذي كنته ولا زلته ، والذي يأبى أن يغادرني كما عدن، هأنذا أجول فيها بلاحدود ، متحررا من الجاذبية ، ومن الطريق، ومن الحجارة، ومن الجسد، فالمدينة تفتح لك سماواتها، وفي الفضاء أنت لست في حاجة إلى طرقات، إشارات، أنت هنا إلى حيث تأخذك الروح، إلى حيث لا تحتاج إلى سلالم، معارج، درجات، أنت في البدء كان الكلمة وكانت.. أنت الذي قيل له :
اقرأ ….
إنها شفرة الاله لك وأنت الوارث لها منذ انزلها جبريل عليه السلام على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
وقد فهمت عدن هذه الشفرة، وتتبعتها، وفتحت بها المغاليق التي لم تفتح لأحد ..
وأنا القادم إليها أتابع الضوء الذي أهدتني إياه وقبلي لمئات الآلاف، منذ بدأت الكتاتيب الاولى تعلم الأبجدية وسور القرآن لفقراء وحاملي البراءة ليومض الضوء في قلوبهم وإن لسعت عصا المعلم أجسادهم الصغيرة الناحلة..
عليك أن تتبع أثر الحرف، لكي تجد طريقك إلى المدينة.. ستجد تاريخا من المدارس التي أنشأتها، التي درس فيها الأطفال الأوائل وسط ركام الظلام، بدءا من مدرسة القديس سانت جوزيف في كريتر المشهورة بمدرسة البادري سنة 1850م، والجزراتية في الخليج الأمامي في نفس العام، وتلك التي أنشأها الميجور ديمس اوترام لتعليم أبناء القوات المسلحة سنة 1856 وأعيد افتتاحها في 1864 ومدرسة القديس سانت انتوني في التواهي في نفس العام .
كان الإنجليز يصبون اهتمامهم في البداية على تعليم أولادهم في عدن التي احتلوها في 1819م ، لكن ازدياد عدد سكان المدينة العرب والحاجة إلى متعلمين من السكان المحليين سوف يفتح الباب أمام إنشاء المدارس الحكومية العربية، بدءا من العام 1877 في كريتر تلتها بعد عامين المدرسة العربية في المعلا، والحكومية في التواهي بعدها بعام ، وأخرى في الشيخ عثمان بعد سنتين.
أما أول كلية للتعليم العالي فقد افتتحت سنة 1910 هي كلية عدن وكان خريجوها يحظون بمنح حكومية لاستكمال دراساتهم العليا في الخارج. وافتتحت مدارس أهلية أشهرها مدرسة بازرعة سنة 1912، والأهلية الابتدائية للبنات في الشيخ عثمان 1925، والمعهد التجاري العدني 1927م ، كما كان في المدينة مدارس لليهود منها مدرسة الملك جورج لتعليم الأولاد، وشيليم لتعليم البنات، الأولى منذ العام 1911 والأخيرة منذ العام 1929. وانتشرت المدارس بكافة مراحلها الابتدائية والإعدادية والثانوية في السنوات اللاحقة، حيث اتسعت الرغبة في التعلم وإدراك أهمية التعليم بين السكان، وأيضا لتلبية حاجة السوق من الوظائف الحكومية وفي البنوك والشركات، وحيث العلم يؤسس لمكانة مرموقة في المجتمع والترقي الوظيفي ويشير إلى ملامسة النجوم البعيدة في السماء.
كيف لم يدرك البعض أن المدينة ليست الحجارة، ولكنها الناس، البشر، الانسان، من لحظة الميلاد، الطفولة، الصبا، الشباب، النضج، الأحلام بدون حدود، أو عندما تتحقق في الواقع، أو تقف بينك وبينها حوائط سد !!
تمشي في شوارع المدينة ، أنت واحد منها، تتأملها، فتجدها ذاتك، أنت القادم إليها لتوك، من أنت؟
من هي ؟
هي أنت ، وأنت هي، وأنا أنت ، وأنت أنا، وكلنا واحد !!
ماذا يفعل الطفل في المدينة ؟!
سيأخذه أخوه محفوظ الذي سبقه إليها بسنين من يده، إلى مكتبة الزحف المقدس في الدور الأرضي لمسجد النور، حيث المسجد في الأعلى والحوانيت والدكاكين والأسواق في الأسفل، خاصية عدنية لن تجدها في أي مكان.. أقل ما يقال عنه إنه الفهم العدني للدين بانه دين الحياة .. دين اليسر لا العسر، وقت الصلاة يمتلئ مسجد النور بالمصلين، وحين يفرغون من عبادتهم يمتلئ السوق في الأسفل وما جاوره من أسواق بالمشترين !
من المكتبة اشترى لي أخي كتابين لازلت أذكرهما فلسفة الثورة لجمال عبدالناصر، وكان جمال يومها شاغل الدنيا في الشرق والغرب، أنا في عدن التي كان يساند حقها في الحرية والاستقلال، فكان معبود الجماهير، خاصة بعد أن ربح معركة قناة السويس والسد العالي وانتصرت مصر على العدوان الثلاثي.
الكتاب الثاني اسمه الزحف المقدس، وكان عن صعود القومية العربية، وكانت تلك سنوات نهوض جديد للأمة بعد فترة استعمار وانحطاط مرت به وتسعى لفض الغبار والكسل عن كاهلها والالتحاق بركب الأمم المتحررة والمتقدمة.
لماذا اختار أخي أن يشتري لي كتبا في عمري ذاك ؟ من بين كل ما تزخر به أسواق عدن مما يغري ويزغلل عيني طفل مثلي من ملابس، ساعات، أحذية، لعب.
ربطات عنق وكنت فعلا أرغب بشدة في واحدة منها أشنق بها نفسي وأرى رقبتي تتدلى منها!!
هل كان يتنبأ بما سأكون عليه بعد سنوات لن تطول كاتبا للقصة؟ تسرقه الصحافة حينا، ثم يعود اليها كمن يشعر بالذنب لخيانته معشوقته الأولى !!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى