ذات عدن .. ذات زمن

> أ. محمد عمر بحاح

>
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح
(4)
تفتح عدن أبوابها، تلتقي بالبحر، بالمحيطات الشاسعة إلى ما لا نهاية .. نحو السماء المفتوحة أبدا …
يفتح الطفل كتاب المدينة في ذهابه وأوبته، من منزل عمته سلمى في الخساف، إلى منزل ابن خاله صالح في حافة حسين، إلى منزل عمه محفوظ في القطيع، وهو نفسه والد الإعلامي والمذيع المثقف ناصر بحاح. ولايزال هناك خلف البنك المركزي في كريتر ، إلى دكان أخيه الأكبر فرج في العيدروس .. مرورا بالسوق الطويل، وسوق الزعفران اللذين يشقان المدينة في المنتصف، وتتفرع منهما بقية الأسواق، الشوارع، الحارات، تنطلق منها وتصب فيها فهي مع الميدان مركز المدينة.
أهداه أخوه كتابين في أول خروج له معه من مكتبة في الشيخ عثمان، وكأنه يقول له بصورة غير مباشرة إن في المدينة جانبا آخر غير الأسواق والحوانيت والبضائع التي تزغلل العين، وأن عليه أن يكتشف ذلك بنفسه.
ليس هذا فحسب، بل كان يقول له دون أن تقرأ لن تفهم!!
أجد طريقي الى المكتبة، المكتبات ، المطبعة، المطابع، القراءة، المعرفة، تأتي إليك دون أن تذهب إليها.
عدن- كريتر قديم
عدن- كريتر قديم

لم أرَ أخي محفوظ إلا ممسكا بكتاب، مجلة، جريدة.. لم أرَ في حياتي أحدا يعشق القراءة مثله، كان خير صديق له، نادرا ما يذهب إلى السوق دون أن يعود بكتاب أو مجلة، وقد جعل ذلك منه مثقفا دون ادعاء، وكثيراً ما كان يفحم أشخاصا أكثر منه تعليما إذا ما تعلق الأمر بالقضايا العامة لا في صلب التخصص. ذات يوم دعتني الزميلة نجلاء شمسان إلى غذاء في منزلها في حافة الهاشمي بالشيخ عثمان، ولفت نظرها اسم عائلتي وقالت إن شابا اسمه محفوظ بحاح كان يشتغل في الدكان الذي تجلب منه عائلتهم الراشن، قلت لها ذاك أخي، قالت والدهشة تملأ وجهها كنت صغيرة، وعندما ترسلني أمي لإحضار غرض ما من دكان الشحاري كنت أجده في كل مرة يقرأ كتابا، ونفس الملاحظة سمعتها من زميلي الشاعر والصحافي نجيب مقبل، وعندما سألاني عنه أخبرتهما أنه هاجر إلى الكويت حيث يمارس هوايته في شراء الكتب وقراءتها، ومنه ورثت العدوى لكن لم أصبح قط مثله فأر كتب !!
ماذا يريد الطفل من المدينة ؟! ..أن يرى ما لا يراه الآخرون .. أو يرونه لكن لا يثير اهتمامهم، إلا قلة منهم!!
كنت محظوظا إذ كان لي أخ مثله، وكنت محظوظا إذ لي أهل وأقارب في كل مدينة أو حي، تسلمني من واحد إلى آخر دون أن يضجر مني أو تضجر.
عدن - صيرة
عدن - صيرة

البحث عن مكتبة في عدن ليس بالأمر الصعب، أقدمها على الاطلاق المكتبة العربية في السوق الطويل بكريتر، افتتحت سنة 1884م ، وبهذا هي أقدم مكتبة على مستوى اليمن والجزيرة والخليج، وكان صاحبها الحاج عبادي الذي اشتهرت المكتبة باسمه، الوكيل الحصري لتوزيع الكتب في عموم الجزيرة العربية وشرق افريقيا، ومن عدن كانت تصدر الكتب العربية إلى شرق آسيا .. أندونسيا، ماليزيا ، وسنغافورة قبل أن تعرف هذه البلدان المطابع!!
مكتبة عبادي كانت الفاتحة لمكتبات أخرى، المكتبة الدنماركية 1910م في كريتر هي مكتبة تبشيرية يدعى مديرها مبارك بالغيش، وقد توفي في كوبنهاجن، وكانت تقوم بتجارة الكتب واستمرت حتى 1960، ومكتبة ليك 1919م وهي تتبع المجلس البلدي بعدن ، وقد حول اسمها إلى مكتبة مسواط سنة 1963 وكانت تمتلك نظاما للإعارة .
مساحة كريتر لا تزيد عن 2 كيلومتر مربع، تمتد كرأس صخري في مياه خليج عدن، على بركان خامد، أحيط بها سلسلة جبلية بركانية تكونت خلال الزمن الجيولوجي الثالث مع تكون أخدود البحر الأحمر .. في هذه المساحة الصغيرة جدا نشأت عدن وذهب صيتها حتى أقاصي الدنيا كواحدة من أشهر مدن وموانئء العالم قديماً وحديثاً.. وفي هذه الرقعة الصغيرة انتشرت المكتبات التي بلغ عددها حتى عام 1962م نحو 16 مكتبة عامة غير مكتبات بيع الصحف والمجلات، منها المكتبة التربوية للنشر، مكتبة المحمدي، مكتبة نعمان، المكتبة الإسلامية، مكتبة المعهد البريطاني، مكتبة العلاقات والنشر ولها فروع في التواهي والشيخ عثمان (حكومية)، مكتبة العلوم الحديثة، المكتبة العربية وهي غير مكتبة عبادي، كاكستون، الثقافة ، الفضلية، الجيل الجديد، وكان لها فروع في خور مكسر والشيخ عثمان .
كانت عدن تقرأ بالعربية والانجليزية والعبرية والاردية، بينما كانت ترطن بشتى اللهجات المحلية بدءا من العدنية لهجة أبناء المدينة الراقية بمفرداتها وموسيقاها، مرورا بلهجة الحضارم المنحوتة من شطارة وتجارة أهل حضرموت ومن تاريخ عريق ضارب في القدم، ولهجة أبناء الشمال التي هي خليط من تعزية وحجرية ورداعية، ولهجة بدو أبين وشبوة ولكل منها لكنتها ونكهتها، إلى لهجة اللحوج المعجونة بطمي دلتا تبن، والمعطرة بغنج اللحجيات، وبروائح الكاذي والفل والبخور، والمتدفقة بأشعار وأغاني القمندان ….وأي بيت عدني دخلت فأنت تدخل إلى البساطة في منتهاها والكرم دون اصطناع ..
التواهي قديم
التواهي قديم

والعدني يقدم لك كل شيء حتى وأن لا يملك أي شيء، وكرمه أصيل فيه ويحب كل الناس ولا يعرف الحقد، منفتح على كل الاجناس، كل الثقافات، ورصع لهجته العدنية بكلمات من الهند ، ومن الجزر البريطانية فصارت جزءا أصيلا منها دون أن يشعر أن ذلك ينتقص من أصالة وجمال لغته العربية ولهجته العدنية.
القراءة تقلص المسافات، تضع العالم بين يديك .. أنت في حضرة مدينة عاش فيها رامبو ، ومر فيها طاغور شاعر الهند العظيم في رحلته الثانية إلى انجلترا ، في حضرة مدينة دارت عليها غزوات وحروب وفي كل مرة كانت تقهر أعداءها ولو بعد حين !! في حضرة مدينة تصنع التاريخ ، وتروي القصص، و تسبك الاشعار، وتسمو بأغاني الحب والوجدان.. أنت في مدينة تدور فيها كل يوم 40 مطبعة ودار نشر صغيرة في وقت واحد ، وتخرج إلى السوق نحو 60 صحيفة ما بين يومية وأسبوعية .. أنت في عدن … عدن التي تقرأ ..
للحديث بقية

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى