> إعداد / علي راوح

أقدم البريطانيون على احتلال مدينة عدن في التاسع عشر من يناير 1839م، بعد الموافقة التي حصلوا عليها من قبل السلطات العثمانية المهيمنة على الجزء الشمالي من اليمن حينها، فأرسلت بريطانيا عددا من السفن إلى شواطئ عدن، ثم اختلقت ذريعتها لتبرير ذلك الاحتلال بادعائها أن الصيادين في عدن قاموا بنهب السفينة البريطانية (داريا دولت) التي جنحت في مياه عدن، فشرعت بقصفها المدفعي على تجمعات الأهالي في منطقة صيرة التي يقع فيها ميناء عدن، وهناك هب المواطنون من عدن والمناطق المجاورة للدفاع عن مدينتهم مستخددمين الأسلحة البدائية بما فيها السلاح الأبيض والتحموا بالقوات الغازية ليسجلوا أروع ملاحم البطولات، متلقين القذائف ورصاص البنادق الآلية بصدورهم السمراء العارية، وقدموا ما يربو على (200) شهيد.. إلا أن ميزان القوى غير المتكافئ رجح الكفة بكاملها لصالح المستعمر البريطاني.
عدن.. تتحكم بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر
وعودة إلى المعطيات والتداعيات التي جعلت الإمبراطورية البريطانية تفكر وتخطط لاحتلال عدن، نجد أن ذلك لم يكن احتلالاً بمجرد الصدفة أو المغامرة العابرة، لكن جاء من معطيات هامة جداً بالنسبة للإمبراطورية البريطانية، ذلك أن عدن تشكل أهمية إستراتيجية كبرى نظراً لموقعها ومميزاتها الطبيعية، إذ تقع في الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية على خط عرض (12/47) شمالاً، وخطط الطول (45.10) شرقاً، وهي بذلك تتحكم بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، الشريان الهام لخطوط الملاحة والمواصلات الدولية بين شرق الكرة الأرضية وغربها.
ميناء عدن.. له من القدرات ما ليس لأي ميناء آخر
وجاء في رسالة القبطان (هينس) الموجهة للحكومة البريطانية قوله: إنّ هذا المرفأ العظيم (يقصد ميناء عدن) يمتلك من القدرات والإمكانيات ما لا يملكه أي ميناء آخر، فهو يحتل مركزاً تجارياً ممتازاً، وأنه أنسب الموانئ الموجودة، ووضعه الحالي صالح لاستقبال السفن وتموينها على مدار فصول العام.
*لاتقدر بثمن فهي ملتقى للسفن
ووصف الحاكم البريطاني في بومباي عدن قبيل احتلالها بأنها لاتقدر بثمن، مشيراً إلى أهميتها كملتقى للسفن المستخدمة طريق البحر الأحمر وكقاعدة عسكرية قوية تتمكن بريطانيا بواسطتها من أن تحمي وتستفيد من تجارة المناطق المجاورة.
*عدن وفرت لبريطانيا موقعاً استراتيجيا فريدا
وفي إحدى مذكراته التي كتبها عام 1861م وصف الرحالة الفرنسي (د. سيمون) عدن بأنها يمكن حقاً اعتبارها جبل طارق البحر الأحمر، كما سماها الإنجليز، وأنها أكثر خطورة من جبل طارق الذي لا يسيطر إلا على البحر الداخلي، واصفاً أنها - أي عدن - تتحكم تماماً في طريق الهند، وأن أية سفينة تجتاز باب المندب لن تستطيع ان تكون آمنة من نيران مدافع بريم (يقصد جزيرة ميون) التي تعتبر الخطوط الدفاعية الأمامية لعدن، مشيراً إلى أن عدن قد وفرت لبريطانيا موقعاً استراتيجيًا فريدا لا يمكن تقديره بثمن فهو قاعدة لإعداد العمليات، ولم يسبق لأية دولة ذات قوة بحرية أن استولت على قاعدة تفوق عدن بالأهمية.
*ميناء عدن أقرب مكان لمواقع إنتاج النفط
ومن خلال تصفحنا لبعض الوثائق التاريخية التي كتبت عن عدن قبيل استقلالها نجد أن آخر رؤساء أمانة ميناء عدن البريطاني (أيرك وود) قد لخص أهمية عدن عام 1967م بأنها الميناء الرئيسي لتموين البواخر بالوقود بين أوروبا والمراكز التجارية والسياحية في الشرق الأقصى وأن ميناء عدن يستقبل نحو ستة آلاف باخرة سنويًا وأن (90 %) من البواخر الواصلة إلى ميناء عدن تأتي للتموين بالوقود، واصفاً الميناء بأنه قادر على إيواء واستقبال أية باخرة تبحر خلال قناة السويس، مشيراً إلى أن ميناء عدن أقرب مكان لمواقع إنتاج النفط في الخليج العربي أكثر من أي ميناء آخر على الخطوط التجارية الشرقية.
وعن المميزات الطبيعية لميناء عدن يقول: (أيرك وود) ميناء عدن طبيعي وكمية الطمي فيه قليلة، في حين مناخ عدن على امتداد ثلثي السنة دافئ وجاف ورائع جداً، وليس له مثيل في هذا الجزء من العالم، وأي زائر لهذه المدينة يجد ما يشتريه خالياً من الضريبة، ولذلك فإن أسعار السلع الفاخرة فيها أقل بكثير من أية مدينة أخرى.
تعود بي الذاكرة إلى صباح يوم الأحد الموافق 25 أغسطس 1996م أي قبل (21 عاماً) حينها كلفني الأستاذ هشام باشراحيل رئيس تحرير «الأيام» فقيد الصحافة الحرة (رحمة الله عليه) بتغطية وقائع الندوة الخاصة والمكرسة حول الأهمية الإستراتيجية والموقع والدور الذي تميزت به عدن عبر العصور والازدهار التجاري الذي احتلته عبر مينائها الشهير، حيث أقيمت ندوة في جامعة عدن بعنوان (عدن عبر التاريخ) وشارك فيها عدد من المختصين والمهتمين، ومنهم الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه المؤرخ اليمني المعروف، والدكتور صالح باصرة رئيس جامعة عدن حينها والقبطان عبدالمعطي حسن من مصلحة الموانئ، والمهندس معروف عقبة، وقد أقيمت هذه الندوة في غمرة احتفالات الغرفة التجارية بذكراها العاشرة بعد المائة، وحضرها عدد من الوفود العربية والأجنبية التي وصلت إلى عدن للمشاركة بهذه المناسبة وحضرها عدد من المسئولين في الغرفة وجامعة عدن، وجمع من الصحفيين ومراسلي وكالات الأنباء ومن المهتمين بتاريخ عدن.
*لعل الذكرى تنفع
ومن منطلق أهمية تلك الندوة وما تناولته من حقائق تاريخية متميزة عن أهمية عدن عبر العصور نورد مقتطفات من حديث المشاركين فيها لعل الذكرى تنفع المؤمنين، ونريدها ان تنفع القائمين على أمر هذه المدينة الحضارية التي حباها الله بمميزات طبيعية حظيت بها دون العديد من المدن العالمية.
*عدن.. ميناء هام في القرن الرابع (ق.م)
أورد الدكتور محمد عبدالقادر بافقيه في مداخلته بأن الدور التاريخي الذي تميزت به عدن والتي أطلق عليها (العربية السعيدة) أعطاها الخصوصية التي اشتهرت بها كموقع للتبادل التجاري عبر الطريق البري الذي ربط اليمن بالشام، وأوضح أهمية اليمن كميناء بحري، وأن عدن قامت كميناء بحري هام ـ في القرن الرابع قبل الميلاد في عصر امتداد النفوذ (القتباني) ـ بدور المنطقة الحرة.
وأضاف أن عدن في خصوصيتها هي كما تناولها كتاب المؤرخ عبدالله محيرز خلقت لتكون منطقة حرة.
*تاريخ عدن هو تاريخ الغرفة التجارية
من ناحيته أشار الدكتور صالح باصرة إلى أن تاريخ عدن المعاصر هو التاريخ الخاص بالغرفة التجارية، الذي هو تاريخ ازدهار عدن والعكس، إلا أن عدن ازدهرت خلال فترة الاحتلال البريطاني ثم انهارت خلال الحكم الوطني، فقد كانت عدن محور اهتمام بريطانيا دون غيرها من المناطق فتربعت عدن على موانئ البحر الأحمر وغيرها، وعند احتلالها كان هناك صراع حول عدن هل يكون دورها حربيًا أو تجاريا، ثم أصبحت عدن ذات دور تجاري.
*أسباب انهيار عدن بعد الاستقلال
وأرجع باصرة أسباب انهيار عدن كميناء بعد الاستقلال عام 1967م لعدة أسباب منها:
- أن عدن حصلت على استقلالها في لحظة حرب حزيران 67م وإغلاق قناة السويس.
- جاء استقلال عدن في فترة صراع أمريكي بريطاني، فكانت لدى بريطانيا، فلم ترغب بريطانيا أن تهيمن أمريكا على مواقع هيمنتها السابقة (عدن)، وربما كانت هناك صفقة بريطانية روسية ودخلت عدن في نظام سياسي اقتصادي جديد كانت له تبعاته السيئة المؤثرة.
- الصراع البريطاني المصري جعل بريطانيا تحرص على منح الاستقلال للجبهة القومية التي لا ترغب في الوحدة مع الشمال موقع النفوذ المصري، وهذه العوامل الآنفة الذكر من المتغيرات أثرت على عدن فانهار دورها كميناء وفقدت دورها التجاري الهام وتزامنت هذه الفترة مع وجود موانئ جديدة منافسة في المناطق المجاورة وبدأ هذا الانهيار منذ 1967م وحتى 1990م فكان أن حصلت خلال هذه الفترة تطورات كبيرة مجاورة فكان على عدن أن تستعيد دورها وأن تقطع أشواطاً كبيرة.
*عدن يجب أن تستعيد سمعتها
أما القبطان عبد المعطي حسن فقد تحدث عن نشاط ميناء عدن التجاري ومراحل تطوره فقال:
“- كانت البداية في نشاط الميناء عام 1839م بعد أن تم إنشاء مركز لتجارة الفحم.
- وفي عام 1845م توسع نشاط الميناء بعد أن تم إنشاء مخازن الفحم والتي شيدت في ميناء صيرة.
- وفي العام 1850م أعلن ميناء عدن ميناء حراً، ولا تزال هناك لوحة توضح اسم المنطقة الحرة.
- في العام 1855م تم إنشاء لسان بحري في المعلا، وتم تحويل الميناء إلى المعلا، ثم تطلبت الحاجة تعميق الميناء وخاصة بعد إنشاء الغرفة التجارية، لأن السفن كانت تفرغ خارج الميناء مما سبب بعض الأضرار للتجار في الميناء، وهنا تشكلت الغرفة التجارية لحماية مصالح التجار في الميناء.
- وفي عام 1889م أنشئت أمانة ميناء عدن كي تشرف على النشاط وشجعت الشركات الهندية والأجنبية على مزاولة التجارة وكانت هذه الشركات هي النواة التجارية، وكان ضمن برنامج عمل أمانة ميناء عدن تعميق الميناء، فكانت عدن أول بلد عربي يشهد نشاط الاتصال البرقي، وهذا عامل مساعد ومشجع للتجار من خلال الحصول على المعلومات التجارية عبر هذه الاتصالات البرقية.
- وفي عام 1934م تم إنشاء أربعة أرصفة عمق (31 قدما) وتزايدت أعداد السفن الداخلة إلى الميناء.
- وفي عام 1950م، تمكن فريق الميناء من إدخال سفينة كل (33) دقيقة (40 - 50) سفينة يوميًا تفرغ حمولتها في المرسى، ثم شهد الميناء تطوراً في بناء (3) مراسي جديدة وتعميق مراسي أخرى، وحتى 1960م، وكان ميناء عدن يحتل الموقع الثاني بعد (نيويورك)، ثم نتيجة لعدد من العوامل الداخلية والخارجية ازدهرت الموانئ المجاورة وادخلت التجهيزات التقنية وتقهقر ميناء عدن ليصل إلى الموقع (334)، ولكن الآن وبعد حفر ميناء الحاويات سيعود ليحتل المرتبة (22) وسوف يكون وضعه أفضل من بعض الموانئ المجاورة، وأتوقع أنه بعد (5 سنوات) ستتمكن عدن من استعادة عافيتها وسمعتها الدولية”. (انتهى حديث معطي).
(حديث الكابتن معطي هذا كان قبل (21) عاماً، وهنا نوجه السؤال إلى معطي وإلى غيره من القائمين على ميناء عدن، ماذا تحقق من تطور للميناء وإلى أين وصلت جاهزيته؟ وما هي أسباب عرقلة تطوير الميناء والعمل على إعادة مجده الغابر؟ وندعو المسئولين على الميناء وكل المختصين إلى عقد ندوة مكرسة لقضية تعثر نشاط الميناء وتوضيح الأسباب والمسببين لهذا التعثر.
إعداد / علي راوح