ذات عدن .. ذات زمن

> أ. محمد عمر بحاح

> (1)
لا تومض عدن إلا بالأنثى، المرأة، الروح، مرآة البحر، شمس النهار، وقمر المساء.. ذات خليقة هبطت من عدن إلى عدن، نمت فوق الصخور البركانية زهرة، وردة، رياحين، أغنية، عطرا، لونا يلون كل الأيام بلون الوجود في سماته الأولى.
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح

نساء عدن في رقة النسيم، وعنف العاصفة، أخذن من البحر مداه وانهماره، ومن الجبل صلابته وأوتاده، إن أحبت أحبت بعنف، وإن كرهت كرهت بلطف!!
لا عدن بدون بحر، وأخال امرأة عدن خرجت من الماء، ومن ذا يقدر العيش بدون ماء، امرأة، روح، التي تنثر حبها عليك، هي الأنثى، وما عداها بقايا، ولا أخالها إلا امرأة يتقاتل عليها الجميع ولا يظفر بها أحد.
(2)
بدأت السفر الطويل وما اشتهيت الوصول، ولكني وصلت عدن ذات بحر.. ذات زمن فما رأيت مدينة أجمل من عدن لا قبل ، ولا بعد! مررت بكل المدن، لكن قلبي هوى هناك،
لا يكتمل الحديث عن عدن دون الكتابة عن المرأة، أو المرأة العدنية، عن جمالها، بساطتها، صلابتها، كفاحها، وتضحياتها العظيمة.
كل تاريخ عدن، بحرها، ميناؤها، أسواقها، بيوتها، أطعمتها، رجالها، أغانيها، أعراسها، رقصاتها، دانها الجميل، لمساتها الساحرة، لا يمكن فصله عن نساء عدن الجميلات.
ثمة نساء رائدات يحضرن دائما في الواجهة، في الذاكرة، والتاريخ، كن امتدادا لنضال الرجل أحيانا، وفي مواجهته والمجتمع أحيانا أخرى لانتزاع بعض حقوقهن، ومنه حق التعليم، وحق العمل، وحق اختيار شريك الحياة، وخضن نضالا طويلا، بصبر، وأناة للظفر ولو بشيء قليل، وما ظفرت به المرأة العدنية من حقوق، وما حققته من مكانة متقدمة قياسا بنظيراتها في المناطق المجاورة، لم يأت من فراغ.
ولكسب هذه المعركة الصعبة والطويلة كان لابد أولاً من كسب ثقة ودعم الآباء والأهل في البيوت.
وكان هناك عدد من الرجال الرواد الذين تلقوا حظا من التعليم، وسافروا إلى الخارج، ورأوا المستوى الذي وصلت إليه تلك المجتمعات من رقي وتقدم، وحققت فيها المرأة أعلى مستويات التطور، وآمنوا بالتالي بحق المرأة في عدن بالتعليم والعمل، كخطوة نحو تقدم المجتمع الذي كان يسير نحو الخروج من عالم التخلف.
ثمة نساء سكن التاريخ، واستوطن القلوب، وتقدمن الصفوف، وبذلن الجهد والعرق، وقدمن تضحيات عظيمة، واستحققن أن يطلق عليهن لقب رائدات عن جدارة.
(3)
لايمكن للدنيا أن تضيء، لهذا خلق الله حواء، وكذلك عدن، المرأة فيها حاضرة لا كديكور جميل، ولكن ككائن بديع كامل، بجمالها، وألقها، وحضورها، وثقافتها، وذكائها، وبساطتها، وطيبتها، وقوتها، وحتى في علوها، وأنحنائها للعواصف.
تدهشني المرأة العدنية، أنا الطفل المسحور الذي لا يكبر أبدا، أول وجه يقفز إلى الذاكرة التاريخية هو للسيدة التربوية الفاضلة نور حيدر، من الطبيعي أن تتصدر المدرسات قائمة الرائدات في عدن، فهن من الصفوة المتعلمة، تروي الكاتبة والصحافية زميلتي نادرة عبدالقدوس التي تزاملنا فترة طويلة في العمل بالصحافة في كتابها (ماهية نجيب.. الريادة) الذي صدرت طبعته الأولى سنة 2005 صفحات عن قصة كفاح السيدة نور حيدر، عندما قرأتها أدركت كم هي عظيمة تلك السيدة الفاضلة التي أخذت على عاتقها قضية تعليم الفتاة في وقت مبكر كان فيه المجتمع في عدن ضد تعليمها، وكم بذلت من الجهد والوقت في سبيل إيصال وتحقيق رسالة التعليم.

أخذت أتصور كيف تحملت حر الصيف، وقدماها وعورة الطرقات، وهي تتنقل من حافة إلى حافة في الشيخ عثمان، من بيت إلى بيت لإقناع أهالي الفتيات بضرورة التعليم وإرسال بناتهم للمدرسة.
التي افتتحتها في منزلها كانت تكرر هذه العملية من الصباح إلى الظهر كل يوم، وتعيد الكرة من العصر إلى الساعات الأولى من الليل، لتعود مهدودة الحيل، منهكة القوى، متورمة القدمين، وفي اليوم التالي تواصل نفس المهمة بنفس الحماس والهمة، لا يوقفها صد ولا تعب، لم تحصد من مشوارها الطويل هذا الذي استمر عدة أشهر سوى ثمان فتيات فقط !! بهذا العدد المحدود بدأت نور حيدر تدريس البنات في مدرستها التي أنشأتها في منزلها.
لم يزد العدد إلا قليلا في العام التالي، في الثلاثينيات وصل العدد إلى عشرين، ثم قفز إلى أكثر من 100 بداية الأربعينيات.
(4)
كم منا مشى في تلك الطرقات والدروب التي قطعتها تلك السيدة العظيمة دون أن يعرف أو يشعر مدى ما قاسته وعانت منه ؟ كم منا شعر بتلك الأقدام وهي تسير على تلك الطرقات في لهيب شمس عدن الحارقة، في سبيل إقناع أب أو أم بتعليم ابنتهما وإلحاقها بالمدرسة؟
وكم منا أحس بمدى مراراتها وهي تتلقى الرفض والصد وربما ماهو أسوأ؟!
كانت عندها رسالة سامية، وإيمان أمدها بقوة ساحرة، جعلها تتغلب على كل الصعاب.
(من زرع حصد) هكذا تعلمنا منذ كنا تلاميذ في أول ابتدائي، نور حيدر حققت النجاح في مدرستها إلى الحد الذي استدعى من السلطات أن تسند لها الإدارة والتدريس في المدرسة الحكومية للبنات التي افتتحتها في شرقي الشيخ عثمان عام 1934، تلك الدروب الصعبة والمعقدة هي التي قادتها إلى سبيل النجاح، والطريق الذي عبدته بصبرها وكفاحها وإيمانها برسالتها مشت فيه أخريات، تتلمذن على يديها وصرن من رائدات التربية والتعليم في عدن، الأسماء كثيرة وهذه بعضها: فطوم يابلي، لولا باحميش، خديجة الهمداني، عديلة غالب.
عقد الأربعيينات كان عقد إنشاء مراكز لإعداد المعلمين والمعلمات، والمدرسة الابتدائية الشمالية في الشيخ عثمان بإدارة التربوية الرائدة نور حيدر كانت البداية التي انطلق منها برنامج إعداد المعلمات الذي مدته عامان ونصف عام 1947م، وجرى تدريب مماثل في بقية مدارس البنات في بقية مناطق عدن.
سنة 1943 سافرت أول بعثة من فتيات عدن للدراسة إلى مصر، تبعتها دفعة أخرى إلى السودان عام 1948 للتأهل معلمات، ومن هؤلاء أسماء لمعت في سماء عدن بعد عودتهن، مثل الإعلامية والمذيعة القديرة ذات الشهرة الواسعة في إذاعة عدن، ومن ثم قي إذاعة الـ (بي بي سي) عديلة بيومي، وهي ابنة للسيدة لولة حيدر شقيقة التربوية الأولى نور حيدر. وكان من بين تلك الدفعتين أيضا نجيبة علبي، خديجة لقمان، زينب علي قاسم، قدرية الحازمي، والأختين حليمة وشفيقة خليل اليناعي.
وفي الستينيات من القرن الماضي سافرت لتلقي العلم في تخصصات أخرى كالطب العلوم الصحية، والقانون، والشؤون الاجتماعية فتيات أخريات منهن:
زينب ديرية، فتحية منقوش، وعائدة علي أحمد، ومن أبرز التربويات اللائي سرن على درب نور حيدر ممن تتلمذن على يديها:
فطوم يابلي، لولا باحميش، خديجة الهمداني، عديلة غالب، وسواهن كثير.
وللحديث بقية…

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى