الإعلام الجديد والعالم.. التأثير والتأثر «2»

> د. قاسم المحبشي

>
د. قاسم المحبشي
د. قاسم المحبشي
يعد الإعلام الجديد أحد مظاهر العولمة وأبرز مقاوماتها الراهنة، إذ بات العالم شديد التداخل والتواصل والتفاعل في فضاء إعلامي تواصلي تفاعلي مستمر.. أي أنه بفعل ثورة الاتصالات والمعلومات وانتقال الصوت والصورة عبر موجات الأثير سيكون العالم مجالاً للرؤية ومكاناً مكشوفاً للجميع. وبذلك تحطمت كل الحواجز والحدود التي كانت في الماضي القريب تفصل بين القارات والشعوب والدول واللغات والثقافات، حيث يمكن للناس أن يتبادوا تحية الصباح كل يوم من طرف الأرض إلى طرفها، بل يمكنهم أن يتحاوروا ويتخاصموا ويتقاتلوا في أية لحظة، كما يحدث في القرية الصغيرة في أقصى الريف.
فالعولمة - إذن - هي العالم وقد أصبح قرية صغيرة يعرف أهلها عنها كلَّ شاردة وواردة، كل صغيرة وكبيرة، نظرا لدخول الإعلام كشريك أساسي في التنشئة الاجتماعية وفي تكوين الرأي العام من جهة، واستحواذ وسائل الإعلام الجديد في الوقت الحاضر على اهتماماتنا وانتباهنا، ومحاصرتها لنا في أي مكان نذهب إليه، وفي جميع الأوقات من جهة أخرى.. بحيث بتنا معرضين - أكثر من أي وقت مضى - لمضامين ما نشاهده أو نسمعه أو نقرأه يوميا من الرسائل.
إذ أن استهلاك الإنسان لهذه المضامين يؤثر في توجهاته وفي تشكيل الرأي العام، وصياغة المواقف والأفعال من خلال ذلك السيل المتدفق للمعلومات والأخبار والرسائل الضمنية والصريحة التي تزودنا بها وسائل الإعلام الجديدة على مدار الوقت.. حتى أصبحت مواقفنا وآراؤنا - بوعي أو بغير وعي - مستلهمة من تلك المعلومات والبيانات التي يتم تقديمها لنا. بما يجعل علاقة الارتباط بين كل تلك المتغيرات والنتائج قابلة للرؤية والتقييم والقياس.
ويمكن القول إن للإعلام القدرة الكبيرة على إحداث تغيير في المفاهيم والممارسات الفردية والجماعية، بل والمجتمعية، عن طريق تعميم المعرفة والتوعية والتنوير وتكوين ونشر المعلومات والقضايا المختلفة، وقدرتها على الوصول إلى المعلومات وتقديمها للمستهلك في الوقت المناسب. والشاهد على ذلك هو التسابق الكبير على امتلاك المعلومة.
لوسائل الإعلام استجابة لرغبات المستهلك وقدرتها على المواكبة واستيعاب التطورات الجديدة في أي المجالات والقضايا، خصوصا السياسية منها، التي تدغدغ العواطف والأحاسيس وتتماشى مع رغبات المواطن العالمي عامة والعربي الإسلامي خاصة، وقدرتها على الوصول إلى الجماهير والتأثير فيها في شتى المجالات الحياتية.
وهكذا يمكن القول إن العلاقة بين العولمة والإعلام الجديد هي علاقة شديدة التداخل والتبادل والتفاعل والتأثير والتأثر، بما يجعلنا غير قادرين على التمييز بين أثر كل منهما على الآخر، وأيهما ولد قبل الآخر؟.
فإذا كان أبسط تعريف للعولمة هو (العالم بعد انكماش الزمان والمكان)، فإن الموكد أن الإعلام الجديد كان له الدور المحور في بلوغ هذا الانكماش، إذ أن التكنولوجيا الرقمية لم تِحدث فقط تحولاً في العالم، بل تمكنت من خلق عالمها المجازي أيضاً، فأقمار الإرسال التلفزيوني الصناعية اليوم مكنت الناس على طرفي الكوكب من التعرض بانتظام لطائفة واسعة من المحفزات الثقافية. فالمشاهدون الروس متعلقون بالتمثيليات التلفزيونية الأمريكية وقادة الشرق الأوسط، يعتبرون محطة الـ(سي إن إن) مصدراً رئيساً حتى للمعلومات والأفكار. فالموسيقى الأمريكية والأفلام الأمريكية والبرامج التلفزيونية أصبحت شديدة الهيمنة ورائجة جداً ومشاهدة جداً حتى إنها تتواجد في كل مكان على الأرض بالمعنى الحرفي للكلمة. وهي تؤثر فعلياً في أنماط وحياة وتطلعات كل الأمم، وهكذا لم تعمل العولمة على خلق عالم موحد، فهي ليست مرادفاً للتعبير (عالم واحد)، بل هي تتجه أكثر فأكثر إلى خلق نظام متشابك لعوالم متصلة، أي مرتبطة فيما بينها.
وبهذا المعنى ندرك أهمية ثورة الإعلام الجديد في الاتصالات والمعلومات وتجليها الأبرز “الإنترنت” الذي يفضي على المدى البعيد إلى توسيع أفق الإعلام الجديد والمعرفة الإنسانية وتحريرها وتبادلها وتعميق الروابط الثقافية بين البشر، ويسعى إلى تكوين المجتمع العالمي، أي شبكة التواصل الاجتماعي المعاصر. فما هي الممكنات التي ينطوي عليها الإعلام الجديد؟ وكيف يمكن توظيفها والاستفادة منها في السيطرة على الإرهاب ومقاومته وتقنينه وتخفيف أضراره على طريق تجفيف منابعه؟!
يجدر بنا التأكيد على الخاصية المحايدة للتقنية، إذ أن التكنولوجيا التي غيرت العالم هي ثمرة من ثمار تقدم العلم والحضارة الإنسانية.. والمسألة الجوهرية تتعلق في كيفية توظيف واستخدام الإنسان لهذه الأدوات والوسائل التقنية المتاحة للخير أو للشر. مثلا هناك فرق بين استخدم الفأس لقطع الأشجار واستخدامه لتحطيم رأس إنسان! والموسيقى مثلا يمكنها أن تدق طبول الحرب كما يمكنها أن تعزف أنشودة السلام. وهكذا، يمكن قياس الأمر على مختلف المجلات التقنية الأخرى بما في ذلك تقنية الإعلام الجديد.
إذ “أن الاتصال من صميم التفاعل بين البشر والإعلام من أهم وسائل الاتصال العصرية، ويمكن للإعلام - شأنه شأن الاتصال بصورة عامة - أن يولد العداوات، كما يمكنه أن ينمي الصدقات”. إذ في الوقت الذي يستمر فيه تقدم تكنولوجيا المعلومات وازدياد كثافة التدفق المعلوماتي وتعقد النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العالم وشعور الأفراد المتزايد بكيانهم الذاتي وفاعليتهم كأفراد في بناء مجتمعاتهم تغيرت النظرة إلى تلك المعلومات والتكنولوجيات، وظهر موقف جديد يعبر عن عهد جديد أكثر إيجابية، حيث لا يكتفي فيه الأفراد والجماعات والمؤسسات بالحصول على المعلومات التي تساعدهم في تحقيق أهدافهم الخاصة، ولكنهم يتولون بأنفسهم صنع ابتكار معلومات جديدة والعمل على تداولها، ودعوة الآخرين لمناقشتها في حرية ووضوح دون فرض أي قيود لضمان سرية المعلومات وحمايتها.
وهكذا أسقطت وسائل الإعلام الجديدة الحواجز بين الشعوب والحضارات والثقافات، وأنهت - إلى الأبد - احتكار السلطات التقليدية للإعلام والتوجيه والإعلان والأخبار والإبلاغ الوحيد المصدر والأحادي البعد. وذلك بما يتميز به الإعلام الجديد من خصائص وسمات وممكنات لم يعرفها الإعلام التقليدي زمن ما كان يعرف بـ(السلطة الرابعة).
* نائب عميد كلية الآداب للشؤون الأكاديمية - جامعة عدن

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى