صفحات من نضال المقاومة الجنوبية ضد المستعمر البريطاني (1)

> كتب/ علي راوح

> توطئة
عبر كل السنوات التي مرت منذ غزو المستعمر البريطاني للجنوب في 19 يناير 1839م ، واصل شعبنا الجنوبي نضاله وكفاحه ضد الغزاة المستعمرين.. وهو كفاح ونضال شاق وطويل تكلل بنيل الحرية وتحقيق الاستقلال وقيام الدولة الوطنية في الـ 30 من نوفمبر 1967م
لكن ما تزال هناك صفحات منسية لملاحم بطولية قدمها الكثير من المناضلين بدءاً من يوم الـ 19 من يناير 1839م، وحتى تحقيق الاستقلال والحرية لشعب الجنوب.. هناك أبطال قدموا أرواحهم رخيصة من أجل الوطن ولم يكن هدفهم الكسب المادي أو الوصول إلى السلطة بل ناضلوا وكافحوا من أجل هدف وحيد، وهو تحرير الوطن ونيل الحرية لشعب الجنوب، ذلكم الهدف السامي والغالي لكل الشرفاء من أبناء الجنوب. أبطال يجب علينا ذكر مآثرهم البطولية وتوثيقها بأحرف من ذهب.
أنشأت الأمبراطورية البريطانية شركة الهند الشرقية، وذلك في العام 1600م، ومن حينها عمدت بريطانيا للتفكير والتخطيط لاحتلال عدن، وقيامها باحتلال جزيرة بريم (ميون) على مدخل البحر الأحمر، ومن ثم محاولتها احتلال جزيرة سقطرى، وهذا جاء على طريق تحقيق هدفها بالسيطرة على عدن.
وظل القبطان (هينس) يتحين الفرصة المناسبة للانقضاض على عدن، كان يبحث عن خطة وحبكة مناسبة ليبرر بها هجومه على عدن، فجاءت الفرصة دون تأخير، جاءت حادثة غرق السفينة البريطانية (داليا دولت) في مياه بحر العرب القريب من مدينة عدن، فلم يفوت القبطان (هينس) هذه الفرصة، واستغل حادثة غرق السفينة مدعياً أن مجموعة من قبائل السلطة العبدلية قاموا بنهب محتويات تلك السفينة، وطلب من السلطان محسن العبدلي تمكينه من احتلال عدن، أو القيام بدفع تعويضات كبيرة مقابل المحتويات التي نهبت من السفينة.
لم ينتظر القبطان (هينس) رد السلطان محسن العبدلي، بل بدأ الاستعداد الفعلي للاستيلاء على جزيرة صيرة، بعد أن كتب إلى حكومة بومباي مبدياً عزمه على احتلال عدن إذ لم يكن السلطان محسن مستعداً للوفاء بوعده.. وقبل وصول السفن الحربية إلى صيرة وصل إلى القبطان (هينس) وفد مفوض عن مدينة عدن بتاريخ 7 يناير 1839م، وتألف الوفد من السيد زين العيدروس القاضي الشرعي لمدينة عدن وإبنه السيد علوي بن زين العيدروس وراشد عبدالله القاسمي والشيخ أحمد بن عبدالله العزيبي، فاجتمع بهم (هينس) على متن السفينة الحربية (كوت)، وقبل الدخول في أي نقاش كان القبطان (هينس) مصرّاً على اعتذار السلطان محسن العبدلي، فسأله السيد زين العيدروس عما إذا كان سيصفح عن السلطان محسن وقبيلته إذا قدّم الاعتذار ووضع نفسه تحت رحمة الحكومة البريطانية، فأجاب (هينس) بأنه سيفعل ذلك.
* القبطان (هينس) مصر على احتلال عدن
كان القبطان هينس مصراً على احتلال عدن، وهذا هو الهدف الذي خطط له البريطانيون منذ العام 1600م، فعلى الرغم من أن السلطان محسن العبدلي كان قد بعث اعتذاراً رسمياً إلى (هينس) إلا أن الأخير بعث إنذارا يقول فيه: "من (هينس) إلى السلطان محسن فضل العبدلي والأمير أحمد بن محسن والشيخ أحمد بن عبدالله العزيبي والشيخ مهدي الزبيري والشيخ عبدالله العزيبي والسيد محسن حسين وجميع الزعماء الآخرين من قبيلة العبادل.. بعد التحية.. أعلمكم بأن قوة بريطانية عظيمة قد جاءت لاحتلال عدن.. ولإقناعكم بمرعاة حكومة بومباي لمشاعركم فقد تم منحكم مهلة حتى المغيب لتسليم المدينة والأرض التي سبق وأن تم الاتفاق عليها فيما بيننا بشكل سليم".

وأضاف في تهديده: "دعوني أؤكد لكم أن المقاومة ستكون عبثا ولا طائل من ورائها سوى خسارة في الأرواح وإلحاق الأذى بدياركم وقبيلتكم، ولقد تسببتم بإهانتكم المتكررة، وبإعلان الحرب ضد الإنجليز في فسخ جميع الوعود، وإنني أؤكد لكم كصديق بأنكم إذا لم تتصرفوا بحكمة في الوقت الذي يقدم إليكم فيه عرض مناسب جداً فإنكم سوف تتسببون في دمار قبيلتكم، إذا لم تقوموا بالإعتذار وإرسال ثلاثة من شيوخ القبائل كرهائن لضمان القيام بتسليم عدن بطريقة سليمة، فإنكم أنتم كبار ورجال القوم والأتباع سوف يسمح لكم بالمغادرة مع الأسلحة والأعتدة والأمتعة الخاصة بكم، وسوف يتم احترام رجال المدينة وممتلكاتها، ولكنكم إذا لم تصغوا في الساعة الأخيرة فسوف يعود كل الأذى على قبيلتكم بسبب خطئكم أنتم".
* إعلان ساعة الاحتلال
وهنا عزيزي القارئ نجد أن لهجة القبطان (هينس) كانت بمثابة إعلان الحرب وتنفيذ خطته في احتلال عدن بدءاً من ميناء صيرة، وعلى الرغم من معرفة اليمنيين بأن المواجهة ستكون بين طرفين غير متكافئين إلا أنه لابد من المواجهة دفاعاً عن كرامة الوطن وشرفه، وحينها لم يكن لدى المقاومة سوى ثلاثة مدافع على قلعة صيرة ومدفع واحد عند بندر دارس ومدفع على البوابة الجنوبية ومدفعان عند أطلال الحصون في الجهة الشمالية ومدفع واحد قرب جبل حديد، ولم تكن لديهم إلا كميات محدودة من الذخيرة.
* محاولة تواجه مقاومة شرسة
في يوم الـ 16 من يناير 1839م هاجمت مجموعة من السفن الحربية ميناء صيرة، واعتقد البريطانيون أنهم سيحتلون عدن بسهولة ويسر، ولكن القوات البريطانية وجدت مقاومة شرسة واستبسال شديد من قبل القبائل التي هبت من جميع المناطق المجاورة لعدن لصد هجوم القوات البريطانية، ونظراً لاستبسال المقاومين تراجع "هينس" بقواته إلى عرض البحر، ليعيد حساباته ويدرس الموقف، وليضع خطة بديلة تمكنه من احتلال ميناء صيرة بأقل خسارة. وعلى الرغم من أن الإنجليز كانوا واثقين بأنهم سينتصرون في النهاية إلا أن المدافعين كانوا بالمقابل أكثر إصراراً على المقاومة والموت فداءً للوطن.
* 19 يناير اليوم المشؤوم
وفي صباح اليوم المشؤوم 19 يناير 1839م، عادت القوات البريطانية واقتحمت بسفنها وجنودها المدججين بمختلف الأسلحة الأوتوماتيكية والقنابل فضلاً عن المدافع الرشاشة المثبتة فوق السفن، فدارت معركة وملحمة كبيرة غير متكافئة من حيث العدة العسكرية، فالمقاومون دافعوا بأسلحة بدائية وبالسلاح الأبيض (خناجر وسيوف وجنابي)، وقدموا ملحمة بطولية رائعة وقدموا أرواحهم رخيصة في الذود عن تراب الوطن.
* الشهيد راجح بن عزب .. أروع مثل
في هذا اليوم المشهود 19 يناير 1839م، اشترك الأهالي والمشائخ والعلماء وعلى رأسهم علوي بن زين العيدروس مع الجنود المدافعين ومعظمهم من قبيلة العزيبة، وقد سقط أكثر من (120) شهيداً والكثير من الجرحى ومن ضمنهم أبو الثوار ومفجر شرارة الكفاح المسلح الشيخ راجح بن عزب بن علي العزيبي، الذي ضرب أروع الأمثلة في حب الوطن والذود عن حياضه، ومثل الصرخة الأولى في وجه المستعمر الغاشم الذي أراد السيطرة على الوطن واستعباد شعبه.. كان الشيخ راجح ومنذ نعومة أظفاره تواقاً للحرية محباً لوطنه رافضاً كل أشكال الهيمنة والتسلط، ومع ما كان يتمتع به من شجاعة وإقدام كان على قدرٍ كبير من التدين والخلق القويم.
لقد كان يدرك أنه على موعد عظيم مع حدث عظيم، وأن الأقدار والعناية الإلهية تعدانه لأمر جلل، لذلك كان عظيم الاعتداد بذاته، كثير الثقة بآرائه، لم تكن تلين له قناة أو يغمض له جفن، طالما كان أمام عينيه هدف يصبو إلى تحقيقه.. وعلى الرغم من شحة المصادر التي تسلط الضوء أكثر على طفولة وشباب هذا الرجل والبدايات الأولى له إلا أن بطلنا هو ذلك النوع من الرجال الذين يختصرون حياتهم في لحظة واحدة وموقف واحد بحيث يكون ذلك الموقف هو العمر كله، وهو التاريخ كله.
* أوصى أن تسلم بندقيته لابنه
في ذلك اليوم المشهود الموقف العظيم الذي لا يصنعه إلا العظماء ولا يصمد فيه إلا الأبطال، في هذا المشهد وأمام خط النار وقف الشيخ الشهيد راجح بن عزب العزيبي وعيناه مشدودتان إلى البحر ويداه قابضتان بقوة على بندقيته بانتظار اللحظة الحاسمة لحظة الالتحام بالأعداء المتمرسين وراء مدافعهم الثقيلة.. وكان - رحمه الله - يحاول قدر المستطاع بث الحماس فيمن حوله وأن يكون القدوة التي اعتادوها.
ولحظة بعد أخرى كانت السفن البريطانية تقترب من ساحل صيرة فيما الأبطال الواقفون على التلة يقتربون من الموت غير عابئين، فسقط أكثر من (200) من المقاومين بين قتيل وجريح، وأصيب الشيخ راجح العزيبي إصابة بالغة وبقي في العناية المركزة إلى أن فاضت روحه الطاهرة إلى بارئها يوم الـ 26 من يناير 1839م مخلفاً ورائه تاريخًا مشرفاً.
وما يمكن الإشاره إليه في قصة الشهيد العزيبي هو تلك الوصية الهامة التي أوصى بها وهو يغادر الحياة وهي أن يتم تسليم بندقيته لابنه، وتم ما أراد، فقد طلب القبطان هينس من القائد البريطاني (ميجر بيلي) تسليم بندقية راجح العزيبي لابنه. والاعتقاد الجازم أن حرص الشيخ العزيبي على تسليم بندقيته لابنه إنما جاء من باب التأكيد والحرص على مواصلة مشواره في الكفاح ضد المستعمر، ناهيك على أنه أراد أن يقول لأبنائه وبناته (ثمانية أبناء وست بنات) إن أهم ما ورثتكم إياه هو حب الوطن والدفاع عنه، فلا تتهاونوا ولو للحظة واحدة في المضي قدماً في هذا الطريق حتى يتحقق النصر والاستقلال للوطن الغالي.
(المادة مستوحاة من وثيقة أعدها المناضل
أبو بكر شفيق بعنوان (أشكال المقاومة للغزو البريطاني)
كتب/ علي راوح

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى