قليل من ظلال البوح بشأن القراءة

> نشوان العثماني

>
نشوان العثماني
نشوان العثماني
أحبُّ أن أقرأ ببطء.. فقد جرّبتُ ذات مرة أن أقرأ سريعًا للدرجة التي سأتمكن معها من قراءة كتاب تعداد صفحاته 400 صفحة في ساعات، لكنني أصل إلى خاتمته بدون أي متعة وبدون أي دفء وبدون محبة وإخلاص لما أقرأ.. فما فائدة ذلك؟
إن المعلومة بحد ذاتها ليست مغرية.. وبالتالي لا يمكن التعامل مع المعرفة على طريقة البورصة.
فإلى ماذا توصلت..؟
هذه طريقتي وهي بطيئة للغاية، لكنها تلملمني وتجعلني أعيش اللحظة جيدًا بصفاء، وأرى العالم بشكل أفضل.
فمثلًا آخذ رواية من 500 صفحة في القراءة السريعة ستحتاج يومين بالكثير، أو لنقل يومًا مكثّفًا خاصًا بها، في هذه الحالة الأمر شبيهًا بالسباق.. إذ تمر سريعًا لا بغية لك غير أن تسبق وتصل إلى هناك، وتكون قد مررت بحدائق ومروج ومختلف تمظهرات الحياة وفنونها لكن دون أن ترى منها شيئًا على الإطلاق، مع أنه لا يكفي أن ترى، فالمهم أن تعيشها وتحياها. ثم ستأتي لتفرغ ما قرأته في أقرب مشهد وسيكون الأمر حينها أقرب إلى الادعاء وتسجيل النقاط.
لم يرحني ذلك أبدًا؛ إذ ليس بحياة مزجاة بالجمال وتنهدات المعرفة..
فللمعرفة ما للمرأة من جمال.. لا تنسوا ذلك.
فسأدع الـ500 صفحة إذن مقسمة على مدى أسبوع أو عشرة أيام أو حتى نصف شهر، لكن لأتنفس ما أقرأه وأعيشه وأشاركه كل شيء، وأثمل به في لحظة عشق صادقة، وصداقة حميمة.. مع ذلك لا بد من الشاي الملبن.
أتوقف هنا مع البطل، أفرح هناك مع الكائنة الجميلة تك تك.. أبتسم مع الطفل العابث في المنزل بل إنني أقفز لأنقذه إن احتاج الأمر للتدخل السريع "ههههههه".. نعم أقفز إلى المشهد وأكمل الباقي خيالًا.
قالت لي سرايا شمميال ذلك ضرب من جنون فقلت ما المحبة إن لم تكن جنونًا ما الغبطة وما الجمال والرأفة؟
إن للحياة معناها الكامل في قلب الأم الرؤوم، وهو ما لن يتسن لنا معرفته نحن الرجال، وبغير ذلك لا يكتمل بناء عش الجمال إلا في التماهي المطلق مع المطلق، ربما.
ومما أمر به أثناء القراءة أنني حين أقرأ مشهدًا مثيرًا - بالمعنى المتعدد للكلمة - أقفل الرواية وأكمل الباقي خيالًا، بل إنني قد لا أعود لمواصلة القراءة إلا بعد ساعات، وإن أكملت السفر اليومي، ولو بقت من الرواية صفحتان فقط، فسيتم إكمال القراءة اليوم التالي..
هذا ما أصنعه حينها: آتي بروايتي الجديدة ضمن برنامج القراءة، محتفيًا بها إذ سأبدأ نسج صداقة جديدة، فأقول مخاطبًا العالم الجديد "ثمة مشهد سابق لا بد منه ختامًا وقياس نسبة التوافق مع ما أكمله خيالي".. دقائق وأغمضي عينيّ باسمًا، وأحيانًا أردد كلامًا بصوت مسموع.
ثمة فجوة ظاهرة يعيشها كل كائن لا يمكن إكمالها إلا بإغماض العينين؛ كأنما لتتمكن البصيرة من استبصار المراد وإتمامه والاحتفاء به طالما لم يجدِ البصر.
والقراءة إن لم تخلق لك عالمك الخاص إزاء الواقع المجرد فإنني لا أحس لها وجودًا يذكر، فمن أجل هذا الوجود لا بد من الوجد والجمال ولكن بنقاء وليس من همّ آخر غير السمو، والوعي إنما بالمحبة والسلام الداخلي يسمو.
وهذا مثال حي من رواية "مئة عام من العزلة" لغابرييل غارسيا ماركيز، ترجمة صالح علماني.. فلما وصلت إلى هذا المشهد إنما ذهبت لأكتب ما كتبته هنا.
كان المشهد "صوّب إليها أوريليانو نظرة أحاطتها بجو من القلق. وقال لها: هناك شخص قادم".
فالآن سأعود لأعرف من هو.. ربما كان شقيق أوريليانو الأكبر خوسيه الابن. وقد لا يتسنى فهم ذلك جيدًا وما يعنيه إلا لمن قرأ الرواية.
ملحوظة: لقد عرفتُ فيما بعد أن القادم لم يكن خوسيه بل طفلة في الحادية عشرة من عمرها، أُسميت "ريبيكا" وما لبثت أن توقفتُ مجددًا نهاية هذه الفقرة متأملًا، فلقد وجدتها لوحة آسرة: "وسرعان ما اعتبرها الجميع فردًا من الأسرة. وكانت تبدي لأورسولا محبة أكبر مما أبداه لها أبناؤها على الإطلاق، وتدعو آمارانتا وأركاديو بأخوي الصغيرين، وأوريليانو بالعم، وخوسيه أركاديو بوينديا بالجد. وانتهى بها الأمر إلى أن تستحق، بجدارة لا تقل عن الآخرين، اسم ريبيكا بوينديا، وهو الاسم الوحيد الذي عُرفت به دومًا، وحملته بجدارة حتى موتها.
ومئة عام من العزلة لم أستطع قراءتها إلا بترجمة علماني. ففي الأدب الأمريكي الجنوبي سنجد ريادة الترجمة لصالح علماني، كما وجدناها في الأدب الروسي عند سامي الدروبي (الذي ترجم أكثر من 30 ألف صفحة إلى اللغة العربية).
وحمادي يقول: قبل أن تبحث عن الروائي أبحث عن المترجم، فالمترجم من الواجب أن لا يقل أهمية، ومن أجل ذلك إنما قال أحد النقاد الروس بما معناه: إذا كتب فيودور دوستويفسكي باللغة العربيَّة فإنه لن يكتب أفضل من سامي الدروبي.. وإن قال حمادي فصدقوه؛ فإن القول ما قال حمادي؟!

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى