ذات عدن.. ذات زمن (17)

> خليل محمد خليل

> (1)
لقد فهمنا بعضنا البعض، أنا وعدن. وعرفنا بعضنا أنا والدكتور محمد عبده غانم. امتدت بيننا صداقة عميقة، لم نكن نلتقي كثيرا، لكن حين نلتقي كان ثم حبل تواصل يمتد بيننا بأقل الكلمات.
أ. محمد عمر بحاح
أ. محمد عمر بحاح

قبل أن أتعرف إليه كانت شهرته قد سبقته، فيما سمعت له من شعر عبر أغان غناها له كبار فناني عدن، وكانت ماتنفك تذاع من إذاعة عدن. وبعد ذلك قرأت ما صدر له من دواوين منذ عام 1941.. وحين التقيته بعد ذلك وجها لوجه، شدني إليه تواضعه، وطوال معرفتي به التي امتدت أكثر من ربع قرن بين عدن وصنعاء لم أسمعه ولا مرة واحدة يفاخر بأنه هو من ابتدع الأغنية العدنية، أو بإنجازاته الشعرية الأخرى، أو بسجله العلمي والأدبي.. كان متواضعا إلى درجة عجيبة، وهذا ما يعرف بتواضع العلماء، كذلك لم أسمعه يشكو يوما من قل الوفاء، أو أنه لم يحظ بما يستحق من تقدير وتكريم في وطنه. كان شعوره أنه انتدب لرسالة عظيمة وقد أداها، ويؤديها دون أن ينتظر الجزاء من أحد. ومنعني تواضع الرجل، وعزوفه الحديث عن ذاته، ان ألح عليه، أو أسأله عن تجربته الريادية تلك، والتي وضعت اللبنة الأولى في صرح الأغنية العدنية التي واصلها من بعده آخرون، شعراء وملحنين ومطربين حتى غدت لونا معترفا به، يملك إمكانيات الاستمرار والتطور...
(2)
ذات بحر.. ذات زمن من عام 1949 امتطى محمد عبده غانم مركبا مع صديقه حامد الصافي من أحد موانئ انجلترا بعد أن أنهى دراسته في جامعة لندن ونال دبلوما عال في التربية قاصدا عدن.. كانت الرحلة طويلة وممتعة، والقلب مملوءا بالحنين وفرح العودة إلى مسقط الرأس وملاعب الصبا.. والروح بالحب، وأحلام الشباب، وآمال الغد.. والفكر مشغولا بأسئلة المستقبل. ومن بين الأسئلة التي طرحت ذات مساء.. ذات بحر.. ذات عودة: لماذا لا توجد أغنية عدنية؟!! في تلك الليلة المرصعة بالنجوم دار حوار طويل بين أصدقاء السفر، مع ثلة من شباب عدن الذين صودف وجودهم على نفس المركب. ولاشك أن الذي ابتدأ بطرح الموضوع كان محمد عبده غانم، الذي كان يشغله هذا الموضوع ومما قيل إن عدن تغني الصنعاني، واللحجي، والحضرمي، واليافعي، بل والهندي الذي أخذ يظهر في بعض الألحان والأغاني المحلية ويلقى الرواج.. فلماذا لا توجد أغنية عدنية حتى الآن؟!! كان السؤال منطقيا جدا، فقد بلغت عدن مستوى من التطور التجاري. والثقافي، والأدبي، والتعليمي، والإعلامي، والمدني، وبلغ سكانها مستوى معيشيا لايمكن أن نوصفه بالترف، لكن يمكن القول عنه إنه جيد جدا، قياسا بالحياة المعيشية في بقية الجنوب واليمن وحتى في دول الخليج، حيث لم تكن قد ظهرت بعد الطفرة النفطية التي قلبت الموازين.. دارت الأحاديث على هذا النحو دون أن يحسم الأمر لكن حجرا ثقيلا كان قد ألقي في البحيرة الهادئة. واتفقوا على دراسته بشكل معمق عند عودتهم.
بعد وصولهم إلى عدن اشترك في مناقشة الموضوع عدد أكبر من الفتية الذين كانوا في المركب... من بينهم هذه المرة الفنان خليل محمد خليل في مقيل عدني، والمقايل في تلك الأيام كانت بمثابة منتديات ثقافية وأدبية وفنية. في ذلك المقيل طرح محمد عبده غانم الفكرة مجددا، ولقيت استجابة كبيرة من خليل محمد خليل ومن معه من المتحمسين لملء ذلك الفراغ الثقافي والوجداني كما يقول البروفيسور نزار غانم في تسجيل صوتي خصني به بعد أن قرأ حلفة الأسبوع الماضي، باعتبار أنهم كانوا في نوع من الرفاهية الاقتصادية نوعا ما كما أتصور، والإنسان عندما يكون في رفاهية اقتصادية يبدأ يتحسس ماهي الأشياء التي تنقصه. على سبيل المثال اكتملت لديهم شغل بعض الوظائف، كما اكتمل عندهم أهمية الفنون الأخرى كالشعر والكتابة، وكانت الصحافة قد قطعت شوطا مرموقا مع فتاة الجزيرة والأيام وغيرهما من الصحف الصادرة في عدن.. لكن الغناء الذي يمكن أن يحسب على المدينة لم يكن موجودا بالشكل الذي حاول هؤلاء الأنبراء لسده.. يضيف بروفيسور نزار: التجريب دفع محمد عبده غانم لأن يكتب قصيدة فصيحة بسيطة اسمها (ياحياتي) ولحنها فعلا خليل بطريقة قريبة من قالب الألحان المصرية، قريبة من الدور وطريقة تلحين القصائد، لكن الأغنية لم تنجح. ويعزو بروف نزار أسباب عدم نجاح تلك المحاولة أو التجربة الأولى إلى أن الأغنية كانت بالفصحى، واللحن ذاته كان ثقيلا بعض الشيء. لكن غانم وخليل استوعبا الدرس بسرعة ولم يحبطا، فكتب أربع أغان بالعامية دفعة واحدة منها (حرام عليك تقفل الشباك) و (يا اهل الهوى ) وكان هذا أول تعامل لمحمد عبده غانم الذي تعود على كتابة اشعاره بالفصحى مع العامية، أو اللهجة المحلية ( العدنية ) وكتب تلك الأغاني على طريقة الأزجال، وواضح من الطريقة التي اتبعها في كتابتها انها مهيأة لأن تصبح أغنية... كان هذا أول ميلاد لما عرف بعد ذلك بالأغنية العدنية بعد أن لحنها خليل محمد خليل.
(3)
الخيال.. خيال خليل الذي لحن شعر محمد عبده غانم الساحر، المختلف عن كل ما ألفه المتلقي، واعتاده من أغاني جعله يتقبلها، يقبل عليها، مذهولا. لا يمكن أن تعرف طرب الشعر الا في الأغاني، ولا روعة الأغاني الا في الشعر.. اظن ان تلك المعادلة قد تحققت بين الثنائي الذي حقق هذه الولادة للأغنية العدنية.. اعني محمد عبده غانم وخليل محمد خليل. ومعهما ندوة الموسيقى العدنية.
يقول نزار غانم ان خيال خليل، وتجاربه السابقة، واستماعه الى كافة ألوان الغناء السائدة في ذلك الوقت، وإجادته لها جعله يصبغ على كلمات محمد عبده غانم ماجاء فيها.. بالإضافة الى نكهة خاصة تكونت عند خليل نفسه، مما أعطى لتلك الألحان خصوصية ليست موجودة في غيرها ، التي يعتمد في لحنها على مقام البياتي في اكثرها، وايقاعها الشرقي، مما كان متداولا ، لأن الأغاني المصرية كاغاني محمد عثمان وسواه كانت متداولة في عدن، يضاف الى ذلك الأصول العرقية لخليل الذي جاءت اسرته من مصر.
(4)
ولد خليل محمد خليل في كريتر، في شارع الطويلة،، قريبا من المعلم التاريخي الأشهر في عدن،( صهاريج عدن ) في عام 1917.
من هذا المكان الذي يحمل عبق التاريخ. رائحة عدن، هواء الجبل، نسيم الشط، روائح واحلام الناس.. خرجت الأغنية العدنية التي وصلت الى كل الآفاق كلون جديد من ألوان الغناء... كان ثمة استحضار للتاريخ والمكان في عصرها الحديث.. ليولد لحنها الجديد الذي يليق بها، وبعالمها المترف، المتطور، المبهج.
تعليمه الاولي تلقاه على يد فقيه في الحي كما كانت العادة حيث تعلم القراءة والكتابة، وقراءة القرآن الكريم، ثم التحق بالمدرسة الحكومية البريطانية وتخرج منها عام 1936. في الثانوية لفت اليه الأنظار كمتفوق في الدراسة وفي الرياضة خاصة القفز العالي وسباق العوائق، كماكان رئيس فرقة الكشافة كما يقول عنه زميل دراسته وصديقه خالد صوري الذي ألف كتاباعنه. عام 1937 التحق بوظيفة كاتب في حضرموت مع الضابط البريطاني الشهير هارولد انجرامز، لكنه استقال منها في نهاية العام وعاد الى عدن ليلتحق بوظيفة سكرتير في مقر حاكم عدن لخمس سنوات تنقل خلالها في وظائف مدنية، كاتبا، منرجما، مختصا بفك الشفرة ونقلها الى الانجليزية خلال الحرب العالمية الثانية حيث تعرضت عدن لغارات القوات الجوية الايطالية. عام 1948 التحق بوظيفة عسكرية كمساعد سجان، وتلقى العديد من الدورات العسكرية في نيروبي ولندن، وترقى الى ان اصبح اول مدير عربي لسجن مستعمرة عدن، لكن الفنان في داخله وتكوينه انتصر على وظيفة السجان في الاخير فقدم استقالته.
(5)
خلع الضابط خليل محمد خليل بزته العسكرية.. ووظيفته الصارمة كمدير سجن وعاد الى حياته المدنية، والى روح الفنان الرقيقة التي لم تفارقه لحظة كما يقول عنه سمير حسن. وكانت مواهبه في العزف على العود وفي الغناء العذب قد برزت في حفلات المدرسة الثانوية، بالاضافة الى ماعرف عنه من تفوقه في الدراسة والرياضة..
وهي الموهبة التي فشلت العسكرية الصارمة في وأدها كما يقول سمير حسن.
وللحديث بقية..
تنشر «الأيام» المقال بالتزامن
مع موقع "صوت عدن"

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى