حُكِم عليها وعلى والدها بالإعاقة.. (فرح) قصة طفولة اغتالتها المليشيات في تعز

> استطلاع/ صلاح الجندي

>
لا يمكن لأحد أن يتصور بأن يتجسد كم هائل من المأساة في جسد طفلة تدعى "فرح"، طفلة حولت الحرب حياتها إلى النقيض التام من اسمها، ولم يعد لها منه أي نصيب.

فرح.. واحدة من عشرات الأطفال الذين ودعوا بسمتهم مع أول قذيفة أطلقها حِلفا الانقلاب بعد تدشين حربهما المستعرة منذ عامين ونصف العام.. حالها المبكي أفقدني القدرة على الكتابة، كيف لطفلة ما تزال في الرابعة عشر من عمرها تحتمل حجم الصدمات النفسية التي يضعف أمامها رجال أشداء.

فإلى جانب فقدانها لحنان الأم، تعرض والدها لإصابات بقذيفة حولته هو الآخر إلى معاق، كل أمنياته أن يمشي برجليه ويعمل ليشتري لابنته لعبة يخرجها من كآبتها ويعيد إلى شفتيها بعضا من السرور وأمل الطفولة، بعد أن أصبح لسان حالها يحكي “اليأس يملأ كياني، اسمي فرح وبلا مرح أعيش أحزاني”.

في مهجعها بمنزل خالها المتواضع بمنطقة الضباب غرب مدينة تعز تخبرنا فرح قصة تختلف عن قصص المعاناة المعتادة في الحرب.

وأنت في طريقك إلى مدينة تعز، يأخذك طريق فرعي قبل وصولك نقطة الهنجر، بين أشجار المانجو وجمال طبيعة وادي الضباب وجداول الماء المنسابة كشلال ضوء بين أتلام الحقول، لكن فرحتك هذه بالطبيعة سرعان ما تزول حين تصل لملاقاة “فرح”.
ها هي فرح التي أخبرنا عن قصتها أحد جيرانها أمامنا، وتحدث عنها وآلامها بشيء اعتقدنا حينها بأنه وصف مبالغ فيه.

مشهد فرح، وهي تنتظر وصولنا، كافٍ لتخبرك ما فعل الحوثيون بتعز وأهلها، هاهي المدينة الآن في عيني فرح، بعكازين ورجل واحدة وملابس تغطي جسدا ممزقا بالشظايا.
“تشتوا خالي”، بهذه العبارة قابلتنا فرح، فخالها هو عائلها والحاضن لها بعد وفاة أمها، لقد انتزع القدر من عينيها آخر دموع الفرح.. قابلتنا وهي مبتسمة ابتسامة من جاءه بالغيث بعيون دامعة، وكأننا سنصنع لها فرحًا، رحبت بنا وسط ابتسامتها الطفولية.
أخبرتها بأنني أودّ نقل معانتها وقصتها للناس، قالت بلهجتها المحلية: “مو شعيدو لي رجلي؟!” ساخرة من صمت هذا العالم المتخاذل عن أوجاعها وأوجاع أطفال تعز.
*مُعاقة
فرح طفلة لا يتجاوز عمرها الـ14 عاما، تعرضت قبل نحو عام للإصابة بشظايا قذيفة أطلقتها المليشيات الانقلابية، لتأخذ منها ما تبقى من طفولتها، وتستقبل شبابها بإعاقة دائمة. فقدت فرح في لحظة وعيها، وسط صراخ ملأ المكان ودخان أغشى محيط تواجدها، وهلع خيم على وجوه كل من كان حاضرا.

موت جثا بركبتيه بالقرب منها، دماء أُريقت وأجساد تمزقت واختلطت بتراب الأرض، كل شيء تغير بلحظة لم تكن بالحسبان، ولم تدونها الطفلة فرح في دفتر يومياتها.
قذيفة أصابتها وكتبت ما لم تكتبه فرح لعشرين عاما قادمة، واختصرت حبر قلمها المسال في الكتابة ولخصت كل ما سيأتي بعنوان بارز في حياتها “معاقة”.
*فاجعة..!
تقول فرح: “إن القذائف التي تنهال يوميًا على الساكنين في تعز حصدت العشرات من الأطفال والرجال والنساء، ولم تتوقع أن إحداهن قد تحرمها ساقها، بعد أن أصابتها بالهلع والخوف الذي مازال أثره حتى اليوم.

وفي وصفها لمأساتها تقول: “كنت مع صديقاتي من بنات الجيران قرب خزان الماء الذي ننقل منه الماء إلى منازلنا، وقتها جاءت قذيفة من قبل المليشيات الانقلابية في شارع الستين، وسقطت بالقرب منا، ومن هول الموقف تفرقنا وهربت أنا، وأثناء هروبي وصلت قذيفة أخرى بقربي وأصابت قدميّ، وبعدها لم أشعر بشيء، ومن ثم تم نقلي إلى أحد مشافي المدينة وأنا في حالة غيبوبة، وبعد اجتماع الأطباء، وعمل جراحة أولية، جاء أبي وطلبوا منه التوقيع على بتر إحدى قدميّ، والانتظار ما إذا كانت الأخرى بحاجة إلى بتر أم لا”.

حاول والد فرح جاهدا إخبار دكاترة المشفى بأنه سيدفع عمره مقابل أن لا تقطع قدمها، لكن الضرورة أبت إلا أن تجبره على التوقيع والقبول بالأمر الواقع، خصوصا بعد أن تم تطمينه بأن الرجل الأخرى ستتعافى بعد عمليات معينة، وتمت عملية البتر، التي بُترت معها أفراح (فرح).

تقول فرح: “قمت من الغيبوبة وأبي يطمني أن رجلي ليس فيها شيء، بعد أن أخبرته أني أحس أن قدمي متغيرة وفيها ألم شديد، كنت أصيح لا أريد بتر رجلي، اقتلوني ولا تقطعوا رجلي، ولم أدرِ أنهم قد بتروها وبتروا معها أحلامي، كل ما جرى سببه الحوثة والمخلوع الله لا وفقهم”.
*بلا أحلام
“أنا محطمة، وأشعر بالعجز عن فعل أي شيء”، قالتها فرح وعيونها يملؤها الوجع، فهي لا تستطيع أن تلعب مع صديقاتها، ولا تستطيع الذهاب معهن إلى الوادي لجلب الماء أو لرعي المواشي كما كانت تفعل سابقا، فالحرب حرمتها من هذه الأشياء التي طالما تعودت عليها.

قالت فرح: “كنت أحلم بكثير من الأشياء التي أحب الوصول إليها، وكان عندي طموح للمستقبل بعد مواصلة دراستي، لأصبح شيئا كبيرا، لكنني الآن أصبحت غير قادرة على فعل أي شيء، ولا أستطيع التنقل من مكان إلى آخر”.
فرح التي تمكث منذ إصابتها في منزل خالها، لا تستطيع الذهاب إلى منزلها لزيارة والدها وبقية إخوانها، فيضطر والدها الذي يمشي بصعوبة حاملاً في يديه عكازه الدائم، يأتي لزيارة فرح كلما اشتاق أو اشتاقت إليه، فمنزله يبعد عن منزل خال فرح بعشرات الأمتار.
*بلا تعليم
تقول فرح: “لا أستطيع مواصلة دراستي، ولا أستطيع المذاكرة، هذا هو حالي، أصبحت مبتورة القدم، والقدم الصناعية التي تحصلت عليها بعد معاناة من أحد مستشفيات تعز لا تمكنني من المشي، فالطريق إلى المدرسة صعبة بالنسبة إليّ”ّ.

ثم أخذت تنهيدة تبعتها بصمت، بعد أن طأطأت رأسها إلى قدمها وقالت: “لا أستطيع مواصلة الدراسة” بعد أن سألتها لماذا؟ قالت: “المدرسة في أعلى الجبل والطريق وعرة إليها، ولا أستطيع الذهاب إلى منزلنا القريب، فكيف سأستطيع الذهاب إلى المدرسة”.

وعن إمكانية التعليم عن بُعد قالت فرح: “لا أستطيع المذاكرة، أصبحت مدمرة نفسياً، ومحطمة، لقد ضاع حلمي وضاع تعليمي، كنت أحلم أن أتفوق في دراستي.. إنني محطة ولن أواصل دراستي”.
فرح لا تستطيع زيارة صديقاتها ولا تتمكن من رؤيتهن إلا متى ما زرنها، تقول فرح: “كنت في السابق أذاكر مع زميلاتي الدروس وأشاركهن في تبادل المعلومات أما الآن فلا أستطيع”.
مأتم فرح
بعيون غارقة بالوجع تسدد فرح نظراتها تجاه والدها أمين ماجد عبده، لتخبرنا عن حاله المعاق، بعد أن أُتى من منزله مُلبياً في ذلك طلبنا الذي تقدمنا به إليه، تشعر فرح بأن قذيفة الانقلابيين التي أصابت والدها أشد ألما من قذيفة أخرى أطلقتها وصادرت إحدى قدميها.


تحمّل والد فرح عكازان خشبيان وتعلوه عينان تعكسان مدى الصبر والتحمل والوجع تجاه ابنته.
تقول فرح: “إن والدها المعاق أصابته قذيفة “هوزر” أطلقتها المليشيات على الحي قبل ما يقارب سنه ونصف، جعلته طريح الفراش”.

يقول والد فرح في سرده لقصته: “كنتُ أمام منزلي وأتت قذيفة “هوزر” أطلقتها المليشيات الانقلابية، وسقطت على غرفة الديوان متسببة في سقوط الأحجار عليّ، غرقت بالأحجار ولم أعرف ماذا حصل بي، أتى الجيران ينتشلونني من تحت الأنقاض، وكنت أرى جزءا من عظام رجلي في الأرض مع بعض اللحم، تم إسعافي حينها إلى داخل المدينة، وبعد عمليات كثيرة تمكنوا من ترقيع رجلي، لكنني أصبت بالإعاقة فلا قدرة لي على السير إلا بعكازين وبصعوبة جدا”.
يتهم والد فرح المليشيات بأنها وراء كل ما حصل ويحصل للمدنيين من قتل وإعاقة وتشرد ونزوح، فهم، حد قوله، “تتار العصر” الذين لا يفرقون بين صبي أو كهل أو رجل وامرأة.
إن ما حصل لفرح ووالدها جدير أن يحكي قصة شعب منهك بقبح المليشيات.
جرائم المليشيات
ليست الطفلة “فرح” وحدها من تُعاني من قبح المليشيات، فهناك عشرات الأطفال من ضحايا القذائف بين قتيل ومعاق وجريح ومفجوع ومشرد.
تحكي لنا فرح قصة طفلة لم تتجاوز العامين، قتلتها قذيفة الموت قبل نحو أسبوعين من الآن، وتسكن في نفس الحي الذي تعيش فيه.

تقول فرح: “إنني أعتبر مصيبتي سهلة أمام ما يحدث للأطفال في تعز، فقبل أسبوعين أتت قذيفة من الانقلابيين وسقطت في بيت الجيران وقتلت ابنتهم ذات العامين، وقذيفة أخرى سقطت في منزل مجاور وجرحت أربعة أفراد من نفس المنزل، وأخرى تتساقط كل يوم ليل نهار”.

وعن مدى الرعب الذي يصيب الساكنين هناك تقول فرح: “لا نستطيع أن ننام في الليل ولا نعيش مرتاحي البال في النهار، القذائف تصل إلينا على الرغم أنه لا يوجد محاربون في المنطقة التي أسكن فيها، لكن القذائف تستهدفنا وتفزعنا ونحن نائمون، وكل بيت داخله مأساة”.

يقول جيران فرح: “أصبحنا مهددين كل يوم بسبب القذائف العشوائية، وأضحى أطفالنا مهددين بالموت أو الفزع والهلع.. إننا مزارعون لا علاقة لنا بالحرب، وكل دخلنا من ودياننا وأراضينا التي نزرعها بالبقوليات والخضروات”.
مناشدات
ما لحق بـ “فرح” من جريمة وإعاقة وإحباط جعلاها لا تنقطع عن الدعاء إلى الله أن ينتصر لأوجاعهم من قبح الحوثي والمخلوع، التي قالت إنهم سبب دمار اليمن وأعداء الحياة وأطفال تعز.
“فرح” تناشد كل العالم أن لا يصمت عمّا يحدث لهم، وتقول: “ليش العالم ما يشوف لأطفال تعز ؟!، أين المنظمات الدولية؟!، وأين الدول ما تُوقِف جرائم الحوثيين على أطفال تعز؟!” .

أما والد فرح فيقول: “إن من يجعل هذه المليشيات تتمادى في قصفها وقبحها هو صمت العالم عليها، والذين لا يحركون ساكنا جراء جرائم الحرب الإنسانية على المدينة”، مناشدًا كل من له القدرة على وقف المليشيات أن يفعل، “إننا لم نعد نتحمل المزيد”، مطالباً المنظمات الدولية بالنظر إلى معاناة المواطنين، ولا تكتفي بما قدمت، فما يحدث في تعز كما يقول “جريمة حرب، ويجعل الناس مهددين بالموت كل يوم”.
استطلاع/ صلاح الجندي

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى