الشعر مواكباً للاستقلال الوطني في الجنوب

> عبده يحيى الدباني

> كان الشعر في اليمن مواكباً لحدث الاستقلال الوطني المجيد، الذي تحقق للجنوب في 30 نوفمبر 1967م، مثلما كان حاضراً خلال الثورات والانتفاضات في الشمال والجنوب، وغيرها من الأحداث والمناسبات. بيد أن الشعر لم يكتفِ بحضوره خلال الأحداث الوطنية موثقاً ومصوراً، ولكنه شارك في صناعة تلك الأحداث مشاركة رائدة منذ ثورة 1948م في الشمال، وكان الشعراء في طليعة المناضلين سياسياً وميدانياً في أغلب الأحوال.
أما ما يخص يوم الاستقلال المجيد، فإنه لم يكن بمنأى عن اهتمام الشعر واحتفائيته وفرحته الكبرى، مثلما لم يكن غائباً عن يوميات الثورة ذات السنوات الأربع التي تكللت بالاستقلال الناجز غير المشروط. فقد وجدنا كلاً من الشعراء محمد سعيد جرادة، ولطفي جعفر أمان، وعبد العزيز المقالح، وغيرهم، يصورون ذلك اليوم المشهود وما ترتب عليه من تغيير إيجابي، كل من زاويته الفنية.
فهذا أولاً الشاعر لطفي جعفر أمان في قصيدته «بلادي حرة» يسجل تفاصيل ذلك اليوم، ويبرز شعوره البهيج به، الذي انعكس على كل شيء في الوطن الحر، من طبيعة وحيوان وإنسان وغير ذلك. إذ يقول في مطلع قصيدته:
على أرضنا بعد طول الكفاح
تجلى الصباح لأول مرة
وطار الفضاء طليقاً رحيباً
بأجنحة النور ينساب ثره
وقبّلت الشمس سمر الجباه
وقد عقدوا النصر من بعد ثوره
لقد طغى الشعور بالفرح الوطني على هذه القصيدة، وصار يشكل مضامينها، وهذا أمر طبيعي، لأنها جاءت صدى لذلك اليوم الكبير في تاريخنا، والذي كان تتوجياً لكفاح شعب أصيل في مواجهة دولة استعمارية عظمى، فحَقّ للشاعر أن يفرح ويصور فرحة الشعب والوطن باستقلالهما وانعتاقهما؛ إذ ليس هناك ما هو أغلى من الحرية.
وبعد أن حلّق الشاعر لطفي جعفر أمان، في سماء الفرح الشامل، عاد إلى هدوئه الواقعي النسبي، فمضى يقترب من التاريخ مسجلاً في نهاية القصيدة هذه الأبيات:
فأين القلاع مدوية تصول وتردي وتستهر
وأين العروش مفخمة وأين من الشعب مستعمر
جحافله بل شياطينه كما قيل حمر ألا فاسخروا
لقد هبّ ردفان في ثورة يخلّدها عيدنا الأكبر
وينشرها فوق كل الجنوب ضياء سخياً لأول مرة بلادي حرة.
لقد عنى الشاعر بالقلاع «دبابات الاستعمار» التي كانت تصول وتجول، أما الشياطين الحمر فهم جنود الاستعمار الأقوياء الذين استنجد بهم بعد هزيمته ولكنهم اندحروا أمام اقتحام الثوار الجنوبيين في أيام معدودات.
أما عبد العزيز المقالح، شاعر اليمن الكبير، فقد حرص على أن يوثق فنياً لهذا اليوم العظيم، يوم الاستقلال. إذ كتب قصيدة تفعيلية جديدة بعنوان «رسالة عامل في ميناء عدن يوم الاستقلال»، أودعها انفعاله بهذا اليوم ورؤيته، فمثلما كان الشكل جديداً فقد كانت الرؤية جديدة، إذ أخذ جزئية هي إحدى مكونات اللوحة الكاملة، ولكنها جزئية مهمة تمثل علامة ورمزاً، هذه الجزئية هي «العامل».
هذا العامل هو أحد عمال ميناء عدن، أنطقه الشاعر بما لا يستطيع هو أن يقوله على هذا النحو، وإن كان يشعر بالإحساس الذي خلعه عليه الشاعر نفسه إلى هذه الدرجة أو تلك؛ لأن الأديب الفنان لديه ملكة عجيبة في أن يتقمص شخصيات مختلفة في مواقف مختلفة، وإن لم يكن قد مرّ بهذه المواقف أو التجارب، ومن هنا يأتي تفرد الأديب قاصاً أو شاعراً، ولكن الأول أكثر موضوعية ومحايدة من الثاني، الذي لم يكن ملزماً بهذه المحايدة أو الموضوعية،
بل عليه أن يلون مواصفاته الواقعية أو المتخيلة بعواطفه ومواقفه الذاتية.
كتب الشاعر:
مازال كفي خاويا
لم أتسلم بعد كسرة الإفطار
لكنني لست ككل يوم أحلم بالرغيف
عند الصحو
عند النوم
في لحظة قتلت معنى الجوع في دمي
أصبحت أغنى أغنياء العصر
القصيدة ذاتها متماسكة، بحيث لا نستطيع أن نقسمها إلى أفكار مستقلة أو حتى جزئية؛ فإنما هي قطعة واحدة مترابطة في مبناها كما هي مترابطة في معناها، ولن تصل فيها إلى نهاية الفكرة ونهاية النفس الشعري، إلا حين تصل إلى آخر كلمة فيها. هكذا تدفقت الجمل على لسان العامل دونما انقطاع أو توقف حتى نهاية النص، فليس ثمة حوار أو تداخل أصوات، فهذا هو يومه الكبير، فيقول ما يريد، وعلى الوجود أن يسمع رسالته حتى النهاية:
أكلت في شراهة كل سياط الأمس والقيود
فصرت لا أعرف معنى الجوع والخواء
وقامتي تمتد في الفضاء
تضرب في التخوم
تقبل الشمس تعانق النجوم
انتصر العامل إذن، وانتصرت التجربة الاشتراكية التي تبنت قضايا العمال والفلاحين وسائر الكادحين، ولكن ذلك كان على حساب قوى أخرى وطنية كان الوطن يحتاج إليها. نحن هنا لا نريد أن نشرح النص، فهو واضح، ويكفي أن نشير إلى تلك الجزئية في حياة العامل ذلك اليوم، وهي «كسرة الإفطار»، فقد تشكلت منها القصيدة، وانثالت منها الأفكار والرموز في ذلك الصباح الذي شكل نقطة النهاية لمرحلة قاسية من حياة الذل والانكسار والاستغلال على المستويين الذاتي والوطني، ونقطة بداية لحياة جديدة من الكرامة والنصر والاستقلال على المستويين نفسيهما، مع ما تميزت به القصيدة من مثالية الشعر في تصوير الأشياء والأحداث، ومن تطرف سواء في رسم ماضي العامل أم في رسم حاضره.
ولكن هذه المثالية وهذا التطرف يأتيان في جوهر الشعر نفسه، ليس من باب الافتعال والتكلف، ولكن من باب الصدق الفني والشعوري، وإلا فإن حياة العامل في ظل النظام الوطني بعد الاستقلال وإلى يومنا هذا لم تكن مثالية، ولم تكن حتى عند المستوى المطلوب أو المقبول، أما العمل النقابي نفسه بما ينطوي عليه من نشاط وكفاح واستقلالية فقد كان في عهد الاحتلال الأجنبي أفضل منه بعد الاستقلال.
ولكن الشعر عادة لا يحاكم على هذا النحو، وإنما من باب الشيء عند الشيء يذكر، وليس التطرف مرفوضاً عند الشعراء، ولكن المشكلة أنه تسلل إلى القادة والنخب السياسية ونظام الحكم. أما ما خلفه الشاعر محمد سعيد جرادة من شعر مواكب للاستقلال فإننا سوف نفرد له مقالاً مستقلاً بإذن المولى تعالى.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى