لغز كلمة عربية قيلت بالنساء الجميلات فخطفها القادة!

> عهد فاضل

> كثير من الكلمات العربية تنطوي على دلالات متشعبة، خصوصاً إذا ما تم النظر إلى الكلمة، في أصلها المعجمي، ثم تطورها عبر الاستعمال، لتصبح ممتلكة مجموعة من المعاني والدلالات، بعيدة كل البعد، عن أصلها ذاك.
ومن تلك الكلمات، كلمة “وسَمَ” أو الوسم. فهي الكلمة التي كانت في أصلها تعني ترك علامة على البعير والإبل، أو عالم الحيوان بصفة عامة، من خلال الكَي، لتمييزها، ثم اشتق من الكلمة ذاتها، معنى الحُسن والجَمال، فيقال الرجلُ وسيمٌ والمرأة وسيمة.
ولا تقف دلالات هذه الكلمة العجيبة الغنية، عند معانيها السابقة. فعلى الرغم من أن الوسم هو أثر الكيّ، فيقال بعيرٌ موسومٌ بسمة يعرف بها، والأداة التي تستخدم بالوسم استمدت اسمها من الفعل ذاته، فأصبح اسمها “الميسم” الذي يعرفه “كتاب العين” أقدم قواميس اللغة العربية بأنه “الشيء الذي توسم به سمات الدواب”، وهو ضربٌ من العلامات وما يكون بالنار في جسد حيوان، مثل سمات الإبل، برأي أبي هلال العسكري، فإن الكلمة تطوّرت وأصبحت في منحى آخر، بعدما كانت تشير إلى تمييز الإبل والبعير بالكَي، ثم اشتق منها اسم الوسامة الدال على جمال المرأة وجمال الرجل، ثم ليشتق منها اسم “الوِسام” الذي يكرّم به الأبطال والقادة!
الرجلُ وسيمٌ والوسامةُ أبلغ من الحُسْن
وبهذا يكون كل وسيم، جميلاً، إنما ليس بالضرورة أن يكون كل جميل، وسيماً. ذلك أنه من الممكن أن يكتسب صفة الحُسن، دون علامة، دون وسامة. وهذا ما دفع بلغوي كبير هو أبو هلال العسكري، ليقول في كتابه “الفروق اللغوية” إن “الوسامة أبلغ من الحُسْن”. ثم يشرح: “الوسيم هو الذي تزايد حسنه على تكرار النظر (إليه)”.
فيما يقول عن الشيء الحسَن إنه “قد ينقص حسنه” إذا تم إكثار النظر إليه.
وهو الأمر الذي تسبب بامتناع الذائقة العربية الحديثة والمعاصرة، عن استعمال صفة الوسامة للمرأة. فلم يعد يقال، امرأة وسيمة. لكن لا يزال يقال، وسيظل، الرجلُ وسيمٌ. ففي “تهذيب اللغة” للأزهري، يميط اللثام عن استعمال مدهش للوسم، فيقول: “الوسمُ الذي يفقَر به الأنف”. مع العلم أنه فسّر الوسم، في موضع آخر، كغيره من اللغويين، فيقول: الوسمُ أثر كيّةٍ.
سحر الحروف الثلاثة في وَسَم، لا يقف عند حد البدء بكيّ الإبل والبعير لتمييزها، ثم الانتقال إلى جمال الرجال والنساء، ثم التحوّر إلى كلمة صارت شيئاً يكرّم به سادة القوم والأبطال، أي الوسام، بل يتواصل ضخ المعاني الغنية فيه إلى أمكنة أخرى.
الواو والسين والميم، بنية كلمة وسم، تستمر بتوليد المدلولات، واحداً بعد الآخر، ذلك أن السين ما دخلت مع الميم، في اللغة العربية، إلا لتخلق مدلولات كثيفة تكاد لا تنتهي، فاجتماعهما ولّد كلمة السماء والسمو والوسم والوسامة والاسم والتخيل أيضاً والترقب والتوقّع. فتقول: توسّم الشيءَ، أي تخيّله وتفرّسه، يقول الفيروز آبادي في المحيط.
الاسم اسمٌ من الوَسم!
وتكمل السليقة العربية في مزيد من الاشتقاقات: والوسميُّ هو أول مطر الربيع. وذكر لسان العرب أن ذلك المطر سمِّي بالوسميّ “لأنه يسم الأرضَ بالنبات فيصير فيها أثراً”. ولم ينته بعد “سِحرُ” اجتماع الواو والسين والميم، والتي يقطع ابن فارس في “مقاييس اللغة” بأنها جميعها “أصلٌ واحد يدل على أثر ومعلَم”.
فالموسمُ، بمعنى الاجتماع، موسمُ الحج، وموسم السُّوق. وينقل لسان العرب إنها سمّيت مواسم، لاجتماع الناس. ثم ينقل: موسمُ الحج سمّي موسماً لأنه مَعلَمٌ (علامة) يجتَمَع إليه. ويعطي استعمالاً آخر للوسم، فيقول: وسَّمنا موسمنا، أي شهدناه، مثل عرَّفنا، أي شهدنا عرَفة”. وفي نقلة نوعية مدهشة لمعنى الوسامة والجمال يقول: “الوسيمُ ثابتُ الحُسنِ، كأنه قد وُسِمَ (على ذلك، أو بذلك)”.
مهارة لغوي هائل سُحِر بتلازم الميم والسين، إلى درجة ينقل فيها أن “أسماء” اسم امرأة مشتق من الوسامة، وأن همزته مبدّلة من واو!
ولم يكن صاحب لسان العرب، وحيداً بربطه بين “أسماء” والوسامة. فقد فعل الكوفيون فعلتهم في هذا السياق، إلى درجة أوقعت لغوياً كبيراً بالاضطراب، للرد على ما جاء منهم حول العلاقة بين الوسم وأسماء. فيقول ابن الأنباري، في كتابه الشهير “أسرار العربية” إن الكوفيين يقطعون بأن أصل كلمة “اسم” في العربية، مستمدّ من الوسم والسّمة.
وينقل ابن الأنباري: “سُمّي الاسمُ اسماً لأنه سمةٌ على المسمَّى يعرف بها. والسمةُ العلامةُ. والأصل فيه وسم، إلا أنهم حذفوا الواو من أوله وعوضوا مكانها الهمزة، فصار اسماً”.
“شجاعة العربية” أم سِحْر العربية؟
والأنباري أورد كلام الكوفيين، بحرفيته، في الوقت الذي عبّر فيه عن رفضه لما قالوه، وكتب ضدّه في ذات الموضع الذي نقل فيه قولهم، إنما ذكره من باب أمانة النقل التي كان يتحلى بها أرباب اللغة العربية، في ذلك الزمن البعيد.
فإذا كان ابن جني قد وضع مصطلح “شجاعة العربية” دلالة على قدرتها وبيانها في عمليات لغوية مختلفة، أشار إليها، فإن تلك الشجاعة، تظهر، بقوة، في الاشتقاق، حيث كانت الكلمة علامة تأتي أثراً لكيّ، ثم تصبح جمال امرأة ورجل، وتتحول وساماً للتكريم، ثم تشتمل على معنى الاسم والتسمية، وتكون مطراً، ثم صفة، ثم توقعاً أو ترقباً وتخيلاً.
ولعل من المحبب، بعد تتبع عمليات الاشتقاق في اللغة، القول بسِحْر العربية، أيضاً، وليس فقط شجاعتها التي يشهد عليها البيانُ ومختلف عمليات الصرف والاشتقاق وتركيب الجملة.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى