عندما يصبح الفساد منهجا حكوميا.. قصة معاناة مريرة مع واقع غابت فيه العدالة الإنسانية.. المتقاعدة نعمة بين حلم تسلم المعاش لسد حاجة أسرتها من الجوع ولصوصية البريد وسمسرته

> تقرير / وئـام نجيب

> حياة المواطنين لاسيما شريحة المتقاعدين لا تكاد تخلو من الهموم والمعاناة القاسية، بسبب انهيار الوضع الاقتصادي وتفشي الفساد الحكومي والعبث بالمال العام.
وفي الوقت الراهن أصبحت فروع البريد بالعاصمة عدن مرافق تقدم المعاناة للمواطنين خصوصا للمتقاعدين من الكهول رجالا و نساء الذين يواجهون مشقة قاسية ولسعات الشمس الحارقة لساعات طويلة أمام أبواب البريد في انتظار معاشاتهم ، وغالبا يعودون إلى منازلهم بعد هذه المعاناة دون الحصول على معاشاتهم بسبب مماطلة موظفي البريد أو عدم مصداقية الحكومة بمواعيد تعزيز معاشات المواطنين إلى مراكز البريد.
كان جديرا بالحكومة المتواجدة في العاصمة عدن أن تضمن للمتقاعدين أبسط متطلبات العيش الكريم، وتوفير معاشاتهم كل شهر دون انقطاع أو تأخير، كون المتقاعد يحصل على وعود متكررة كل يوم من موظفي البريد، و بعد عناء الانتظار من الصباح حتى ساعات الظهيرة يفيدهم موظفو البريد بأن يأتوا في اليوم التالي، وهكذا يتكرر السيناريو، ويعيش المتقاعدون مرارة الانتظار والجوع في منازلهم.
«الأيام» رصدت معاناة مواطنة متقاعدة تعيش حاليا مأساة كبيرة في متابعة معاشها البسيط أمام بوابة البريد كل يوم، هذا الأمر أصابها بالإحباط واليأس كونها كبيرة بالسن وحالها وحال أسرتها قاسية للغاية.
المتقاعدة نعمة أحمد ردمان، من منطقة الممدارة بمديرية الشيخ عثمان في العاصمة عدن، كانت على قارعة الطريق تحت الشمس المحرقة، تنتظر انفراجة امل امام بوابة البريد مع المئات من امثالها المتقاعدين الذين يتزاحمون يوميا للحصول على ابسط حقوقهم القانونية والوظيفية والمتمثلة بالمعاشات الزهيدة التي لاتكفي لتغطية قوت ايام معدودة بسبب تدهور الاوضاع وغلاء الاسعار.
تحدثنا نعمة عن وضعها واسرتها، وسردت قصتها المؤلمة وما تعانيه، وقالت: "كنت أعمل طباخة في معسكر بدر وانا حاليا متقاعدة منذُ 26 سنة، و كان راتبي قبل احالتي الى التقاعد 20 ألف ريال يمني، وبعد التقاعد ارتفع راتبي الى 34 ألف ريال، ولدي 4 أولاد وابنتان، هما مطلقتان الان، وكلاهما لديهما أطفال، وتوفى زوجي عندما كان اكبر اولادي عمره سنة آنذاك، وكان زوجي يعمل بالأجر اليومي وغير موظف، وحاليا ظروف الحياة أرهقتنا وأتعبتنا كثيرا، وفي بعض الاحيان لانجد قوت يومنا".
المتقاعدة الحجة نعمة أحمد
المتقاعدة الحجة نعمة أحمد

واضافت "اواجه صعوبة كبيرة في توفير متطلبات اسرتي و(راشن) البيت، خصوصا في الوقت الحالي مع الارتفاع الجنوني للاسعار".
*وعود عرقوبية
وتشير نعمة إلى أن المعاشات غير منتظمة، ومعاش شهر يناير لم احصل عليه، وكل يوم آتي من منزلي الساعة السابعة صباحاً لأجلس على قارعة الطريق برفقة الكثير من الناس الذين ينتظرون معاشاتهم، وعندما نأتي يقول لنا عمال البريد انتظروا، وبعد فترة من الانتظار يفيدونا بأنه لايوجد معاش، عودوا غداً، وهكذا هو الحال الذي يتكرر يومياً، اصبحنا نطالب بمعاشاتنا وكأننا متسولون، (اليوم) انا منتظرة لمعاشي اذا تسلمته سيحصل اولادي على الغذاء واذا لم اتسلمه سوف نبيت يومنا بدون طعام".
*توفير قوت يوم
وفي تعبير ممزوج بالحسرة والالم تحدثت المواطنة نعمة بأنها تحلم بأن تجد هي واسرتها الطعام اليومي فقط، وان ينعم ابناؤها بحياة كريمة مستورة، وحملت الحكومة المسؤلية تجاه معاناتها وغيرها من المواطنين المحرومين من ادنى مقومات الحياة وقالت: "حكومتنا غائبة تماماً ولا تشعر بمعاناتي ومعاناة الكثير من أمثالي، ولا نطالبها ببناء قصور وابراج شامخة لنا، كل ما نتمناه هو توفير قوت يومنا وعيشنا بكرامة داخل منازلنا المتواضعة، ونحن لا نملك شيئا غير الراتب البسيط، واثنان من اولادي يساعداني على توفير بعض متطلبات المنزل، عن طريق اي عمل عضلي يجدونه وما نحصل عليه ننفقه لتوفير الطعام".
متقاعدين يفترشون امام بوابة البريد في انتظار صرف المعاشات
متقاعدين يفترشون امام بوابة البريد في انتظار صرف المعاشات

*غصة ودموع وألم
تواصل المتقاعدة نعمة سرد قصتها وفي صوتها غصة وحسرات، وفي عينيها تترقرق دموع الألم والحرمان.. وواصلت حديثها: "للتخفيف من ضغوطات الحياة ومتطلباتها، لجأت في فترة قبل الحرب إلى اخذ (قرض) من احدى الجمعيات ويكون التسديد نهاية كل شهر من معاشي التقاعدي عندما كان يصرف بانتظام، وعملت حينها مشروعا صغيرا من خلال شراء بعض الملابس وبيعها على نساء الحي بنظام الاقساط، ولكني توقفت بعد الحرب نظرا لعدم مقدرة النساء على دفع ما عليهن من مبالغ، وهذا الامر سبب لي مشكلة وتوقف مشروعي ولايزال القرض الذي اخذته من الجمعية في عنقي، وما يزيد الطين بلة هو ان معاشي لا يكفي ولايفي بالغرض، ولا يكفينا حتى كمصروف شهري".
*المجاملات تحرمنا الإغاثة
وفيما يتعلق بجانب الدعم الاغاثي المقدم من المنظمات للفقراء والاسر المحتاجة فإن اساليب التوزيع لهذا الدعم حرمت المواطنة نعمة منه، وتذهب حصتها لأماكن اخرى ولاشخاص اخرين عن طريق المجاملات والمحسوبية، تقول نعمة: "ان اسرتها لاتحصل على المعونات والمساعدات المقدمة من الاشقاء بسبب المجاملات والمحسوبية والمحاباة في التوزيع، وانها محرومة منها حاليا، وانه خلال تسجيل عاقل الحارة لاسماء المستهدفين والمحتاجين للمواد الغذائية ذهبت اليه ورجوته أكثر من مرة بأن يدرج اسرتي في كشوفات الاسر التي يشملها الدعم، ولكنه رفض ادراجنا في قائمة المساعدات، ويقول لي دائماً (ماذا تريدينني ان اعمل لكِ اكتمل العدد المطلوب، التسجيل توقف)، وما اشاهده هو ان غالبية الاسر تحصل على المعونات، لا ادري كيف اعمل ولماذا تحرم اسرتي من هذا الدعم الاغاثي؟!".
وتابعت نعمة ردمان سرد معاناتها بالقول: "كنت اعيش مع اولادي في مسكن ايجار، وعندما عرف مالك المنزل بحالتي قام بإعفائي من دفع الايجار، وهذا هو صاحب الخير الوحيد الذي وجدته في هذه الدنيا، اما عن الناس الاخرين فهم لم يمدوا لي العون ولو بالشيء البسيط، حتى اخوتي لم يواسونا بأي مساعدة، وهم على علم بظروفي الصعبة".
"نشتي راتب" على جدار البريد العام بعدن
"نشتي راتب" على جدار البريد العام بعدن

وبلهجة حزينة، تواصل: "الدنيا لم تتغير، ولكن الناس هي التي تغيرت، اليوم الجار يأكل وجاره بجانبه يتضور جوعا".
*الإجرام من أجل الطعام
ولمحت نعمة بأن الوضع المعيشي الصعب الذي يمر فيه المواطن، والفساد الحكومي دفع الناس المحتاجين الى ممارسة الاجرام والسرقات من اجل توفير الطعام لأطفالهم، تقول: "الناس اليوم تموت من الجوع، هذه الحكومة لاتشعر بما يعانية المواطن، لم اطلب اي شيء من تلك الحكومة سوى ان تتقي الله فينا وبأطفالنا، لا نطلب منها الكثير ولكن مطلبنا الوحيد الستر والعافية فقط".
*كان الوضع جميلا
وتنهدت المواطنة نعمة عندما عادت بذاكرتها الى الخلف وتذكرت الحياة والاوضاع ايام زمان قبل عشرات السنين واستطردت بأنه "قبل دخول البلاد بمشروع ما يسمى الوحدة مع الشطر الشمالي كانت الامور جيدة، حيث انني كنت احرص على دخول ابنائي المدارس، بكل سهولة، كانت النقود (الشلن) الواحد او الاثنين انذاك تكفي كمصروف للطالب عندما يذهب الى المدرسة، وبعد انتهاء يومه المدرسي يعود إلى المنزل ويجد وجبة الغداء بانتظاره، وبعدها يذهب الى (المعلامة)، دروس خصوصية، وبعد الوحدة انتهت تلك الايام الجميلة وتغيرت اوضاعنا الى الاسوأ.
*الخاتمة
حاليا الواقع المعاش في العاصمة عدن يمتلئ بحالات كثيرة من أمثال المواطنة نعمة، وكلما توسعت فجوة الفساد الحكومي وارتفعت الاسعار زادت معها نسبة المعاناة ونسبة المجاعة بين اوساط المجتمع.
«الأيام» ستسلط الضوء في اعدادها القادمة على اوضاع البسطاء من المواطنين المتقاعدين والشريحة المستضعفة في واقع حياتنا اليوم، لتنقل رسالة بأن هناك شعبا يكتوي ويفتقد إلى أبسط مقومات الحياة الكريمة في ظل غياب تام للحكومة وللضمير الانساني.
تقرير / وئـام نجيب

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى