أحمد باعبّاد.. شيخ العلم والآداب وفقيد المنبر والمحراب.. ألّف كتبا في الفقه والتوحيد والنحو والشعر والتاريخ

> تقرير/ شائف الحدي

> في العام 1333 من السنة الهجرية، في بلدة الرباط بمحافظة الضالع، ولد العلامة البارز أحمد باعباد الضالعي الحضرمي، وهو من أسرة تعود أصولها لمحافظة حضرموت في الجنوب الشرقي للبلاد، وهذا الأخير يعد واحدا من أبرز المراجع الدينية في المحافظة.
وهو ينتسب إلى أسلافه من السّادة والمشايخ الأشراف من آل مسدس باعبّاد، الذين يقطنون في بلدة الغرفة التابعة لمديرية سيئون في وادي حضرموت، وكان نشأ في كنف والده القاضي العلاّمة عبدالله باعبّاد، وتعلم القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، بعد أن تربى تربية دينية ساهمت في صقل أفكاره.
وباعباد كان في كنف أسرة علمية عريقة ظلت رافدا لإمارة الضالع والجنوب بكل جديد في علوم الدين، مع أنه فقدَ والده في سن العاشرة، إلا أنه نشأ محُبًّا للعلم والمعرفة وكان ميالا للقراءة والتعلم، وهذا ما ساعده في حفظ القرآن الكريم في سن مبكرة استِظهارا (حفْظ وتلاوة بلا كتاب، عن ظهر قلب) مع الترتيل الذي كان يؤديه بإتقان.
غرفة آل باعبّاد بسيئون موطن أجداده
غرفة آل باعبّاد بسيئون موطن أجداده

ورحل عديد مرات طلبا للعلم، وهذا كان له دور كبير في صقل شخصيته وتهذيبها.
وكنا وجدنا بين تراجمه هذه القصيدة التي نظمها بلسانه وكتب ببنانه تاريخ نسبه وموطنه وهوايته فقال منشدًا:
أيَا سائلاً عن نسبي وهوايتي
وما أنا فيه من محلٍ ومن رتبْ
أنا أحمدُ من آل عبَّاد نسبي
ووالدي عبدالله في العلم مُنتجبْ
وأقطن في الأرياف من ضالع ومن
جنوب الجزيرة أوّل النشء للعربْ
تعلمت في عدن وفي حضرموت في
تريم ونلت الفوز فيها مع الأدبْ
ومالي في التمثيل والسينما هوىٰ
ولا كثرة الإفراط في الفن والطربْ
وكلٌ مخلٌ في المروءة والتُقى
وما هو في حكم الشريعة مُجتنَبْ
ولكنني أهوىٰ العلوم وبحثها
وأَفْضَلُهَا علم الديانة والإِربْ
وشغلي في تدريس فقهٍ ألفتهُ
وفتوىٰ وإِرْشاد وشعرٍ مع الخُطبْ
حينما هاجم جيش العدوَّ التابع للإمامة الذي كان يقوده السيد يحيى بن محمد بن العباس المتوكل الشهاري الحسني، وهو الملقب بـ(أمير الجيش الملكي) في قضاء إب التابع للمملكة المتوكلية اليمنية، إمارة الضالع غادر الشيخ أحمد مع والده القاضي العلاّمة الشيخ عبدالله باعبّاد، الضالع مرافقًا لأميرها نصر بن شائف بن سيف بن عبدالهادي حسن الأميري، هربا من بطش الدولة الزيدية في العام 1920 التي احتلت بلاد الضالع وقتها، لكنه بعد ذلك انتقل إلى الحوطة في لحج وهي حاضرة السلطنة العبدلية، وهناك بدأ بتعلم الهجاء والقرآن الكريم حتى ختمه في غضون ثلاثة أشهر، بعدها تلقى دروسه الابتدائية في المدرسة المحسنية في لحج.
ثم انتقل مع والده إلى عدن وهناك تابع تعلمية في المدرسة الوحيدة آنذاك، وكانت تسمى الأسكول (المتحف العسكري حاليًا) قبل أن يعود إلى لحج حيث تعلم على يد صهره وتلميذ والده العلاّمة الداعية الشيخ أحمد بن محمد بن عوض العبَّادي، شيخ مشايخ عـدن وأستاذ الشيخ محمد سالم البيحاني، ودرس أيضا على يد عديد أساتذة فنون في الفقه والتوحيد والنحو والصرف والحساب، وكان له السبق على زملائه في كل العلوم، وبعد أن توفي والده عاد إلى مسقط رأسه في الضالع بعيد تحريرها من احتلال المملكة المتوكلية في العام 1928م، وكان واصل تعليمه في بلدة العلم خوبر (موطن آل باعبّاد) وهي من أشهر مناطق الضالع، على يد الأستاذ الشيخ محمد بن أحمد باعبّاد، وهو أحد تلامذة والده الشيخ العلاّمة القاضي عبدالله باعبّاد.
*ترحاله في طلب العلم
بعيد اكتسابه الكثير من العلوم دفعه الشوق للبحث أكثر في فنون العلم الشرعي والمعرفة اقتداء بسنن آبائه وأجداده في حضرموت، فذهب هناك بقاربٍ بحري قبل أن يرحل مشيًا على الأقدام في رحلة شاقة دامت شهرًا ذاق فيها من آلآم الجوع والعطش والخوف صنوفًا، وكان هذا في سبيل طلب العلم وتلقي العلوم الشرعية.
رباط تريم لتدريس العلوم الدينية والعربية
رباط تريم لتدريس العلوم الدينية والعربية

بعدها كان المنطلق نحو مدينة العلم تريم الواقعة في وادي حضرموت، والتي حط فيها في شهر شوال من العام 1349 هـ عقب وفاة والده بحوالي خمسة أعوام، وحينها كان عمره ستة عشر عامًا، وفي تريم درس في رباطها حيث المعهد الديني الشهير، وهو المعهد الذي كان يوفد إليه طلاب العلم من بلدان آسيا وأفريقيا ومازال، وهناك تتلمذ على يد العلاّمة الكبير عبدالله بن عمر الشاطري الحسيني العلوي التريمي (1290 ـ 1361 هـ/ 1873 ـ 1942م)، وهو مدير معهد رباط تريم، لتدريس العلوم الدينية والعربية آنذاك، وتأثر باعباد حينها بالأخير، وانتفع كثيرًا منه، وكان يحظى باهتمامه الكبير عندما وجده مجدًا ومولعًا بالعلم وقد انتدبه للتدريس في المعهد.
وأخذ العلم أيضًا عن العلاّمة الشيخ علوي بن شهاب العلوي، وقد درس أربعة أعوام في رباط تريم في الفقه والفرائض والتفسير والحديث والتاريخ والأنساب والتراجم والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق، فخاض بحارها وصنّف في بعضها وكان سريع الفهم ذا ذكاء ثاقب، إذ كان يحفظ في ساعة ما يحفظه غيره في يوم وليلة؛ فقد حفظ منظومة البهجة الوردية ( 5000 بيت)، نظم الشيخ الإمام زين الدين أبي حفص عمر بن مظفر الوردي الشافعي، وحفظ ألفية ابن مالك في النحو والصرف، متن يضم غالب قواعد النحو والصرف العربي في منظومة شعرية يبلغ عدد أبياتها تسعمائة وثمانية وثمانين بيتًا، وكذا (متن الزبد) في علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي للشيخ الإمام أحمد بن رسلان الشافعي، وجوهرة التوحيد، أحد أهم متون علم العقيدة والكلام عند أهل السنة لمؤلفه إبراهيم اللّقاني المالكي، والكثير من المتون، وكان من أوائل الطلاب، حيث أمر أن يكون زميلاً لمدرسيه في البداية والنهاية ودروس المنهاج والعمدة وإعانة الطالبين وبشرى الكريم وكثيرًا في كتب الفقه والتفسير والحديث والنحو، إذ كان موسوعة نادرة، وما إن ضلع في هذه العلوم برز لنشر العلم وإحياء ما تلقاه من علوم في بلدة تريم الطيبة.
من أبرز العلماء والشيوخ الذي تلقى العلم منهم كان والده القاضي العلاّمة عبدالله باعبّاد والعلاّمة الداعية الفاضل أحمد بن محمد بن عوض العبّادي، والشيخ الأستاذ محمد بن أحمد باعبّاد، والشيخ الفقيه الإمام العلاّمة والداعية الكبير عبدالله بن عمر الشاطري الحسني العلوي التريمي، والشيخ العلاّمة علوي بن شهاب العلوي، رحمهم الله، وكان هناك آخرون تلقى العلم عنهم، وبالمقابل كان له اتصال بعلماء من عدن ولحج ويافع وحضرموت وآخرين.
*بعد التخرج
بعد أن تخرج، عمل الشيخ باعبّاد مدرسًا في غرفة باعبّاد في سيئون التابعة لوادي حضرموت وحينها كان يصرف له مرتب شهري من السلطان الكثيري، وهو سلطان السلطنة الكثيرية، وبعيد انتقاله إلى إمارة الضالع عيَّنَ في 1 نوفمبر من العام 1942م معلمًا وبذلك صار أول شخصية تربوية في مدرسة حكومية من قبل (اللفتنانت كولونيل شيبرد)، وهو القائم مقام الوكيل البريطاني لمحمية عدن الغربية، وتخرج على يديه المئات من أبناء الضالع والمناطق المجاورة بمن فيهم أمراؤها وأعيانها.
وعلى إحدى مدوّناته كان كتب أبياتًا من نظمه قائلاً:
لسان الحال يهديكم سلامي
ورسمي ماثلاً للذكريات
فهل لي دعوةٌ ممن رَآنِي
فيسعفني بها بعد الممات
*أشهر مؤلفاته
كان المؤرخ الكبير العلاّمة الشيخ أحمد باعبّاد، قد ترك مكتبة قيمة تحتضن قائمة بأبرز المؤلفات من الكتب النادرة والمتعاقبة التي كان ورثها من والده القاضي الشيخ عبدالله باعبّاد، وهي من الكتب التي اقتناها أثناء طلبه للعلم، وهي تحتوي في طياتها على كتب التفسير والفقه والتوحيد والحديث واللغة والأدب والخطابة والبلاغة والشعر والنحو والطب والتاريخ:
1 ـ السفينة العبّادية بالفقه، تتكون من 583 صفحة سماها باسم سفينة والده وصل فيها إلى باب الجمعة.
2 ـ مخطوطة الشجرة العبّادية، تتألف من 504 صفحة وهي تمثل أبرز مراجع القبيلة هائلة العدد في الوطن وخارجه، رسمها وخططها في قالب عجيب وأسلوب شيق على شكل شجرة سيقانها الآباء الأوُلْ وفروعها أبناء القبيلة وثمارها الناضجة العلماء والصلحاء.. إلخ.
3 ـ مخطوط، وهو عبارة عن كتيب هام خاص في بعض ما يجب معرفته في شروط النكاح وأركانه وسننه وكيفية تلقين العقد.
4 ـ نظم الكثير من القصائد الشعرية منذُ أكثر من ثمانية عقود زمنية حتى وفاته، وقد تم تدوّين ثلاثة دواوين، أحدها سياسي فيه أهم المراحل التي عاصرها، والثاني اجتماعي في الأدب والغزل والفكاهة والمراسلات والرثاء والزوامل الشعبية والشكوى والمديح والهجاء وثالث اختص ببعض الشؤون الأسرية.
5 ـ كتيبات صغيرة لبعض رحلاته الممتعة في نطاق بلدات اليمن شماله وجنوبه، وعن الفلك والطب والتاريخ وغيرها.
وفاته
حينما أتى الموت العلامة البارز أحمد باعباد، كانت شهادة أن لا إله إلا الله هي آخر ما قاله المرجع الديني الأكثر شهرة في الضالع، وبعد سبعة عقود ونيف من مسيرة كانت حافلة بالتاريخ المشرف والبذل والعطاء الزاخر؛ كان يوم الإثنين الثاني من رمضان 1411 هجرية الموافق 18 مارس 1991م، الأخير في مسيرة الشيخ العلامة أحمد باعباد، ووري جثمانه الثرى إلى الجنوب من منزله، وكان ابنه المؤرخ الأستاذ عبدالرحمن أحمد باعبّاد، قد خلف والده في الإمامة والخطابة والتدريس والإذن الشرعي في العقود والفتوى وتحرير الوثائق وإصلاح ذات البَيْن.

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى