رسالة الجنوب الجديد والحاجة إلى التناغم بين الإرادتين الشعبية والسياسية

> تحليل / د. صالح طاهر سعيد

> لقد اعترف العالم كله وعبر مؤسساته الشرعية بأن الشعب الجنوبي يشكل جزءا راسخا في البنية الشعوبية للمجتمع الإنساني بهويته الوطنية المستقلة وسيادته على أرضه وحقه في تقرير مصيره، وصارت له بحسب ذلك الاعتراف دولة كاملة السيادة عضوا كاملا في الأمم المتحدة ومؤسساته الشرعية الدولية الأخرى، وهي حقوق ثابتة لهذا الشعب غير قابلة للنقض ولا تسقط بالتقادم، بل تزداد رسوخا وثباتا مع مرور الزمن بزيادة أعداد المنتمين لهذا الشعب من جيل إلى آخر، وتشكل هذه الحقوق حقوق وجود وبقاء لهم جميعا.
إننا ونحن نقترب من بدء مسارات الحل السياسي لما بات يعرف بـ«الحالة اليمنية» نعيد التأكيد على ما هو آتٍ:
أولا: عرف شعب الجنوب مثله مثل كل شعوب الأرض في تاريخه الطويل، عرف النجاح والإخفاق، فحين تكون زمام المبادرة بيد الشعب ويصنع تاريخه بنفسه يكون النجاح هو النتيجة، وحين يفقد الشعب المبادرة ويصنع له تاريخه من خارجه يكون الفشل والإخفاق هو النتيجة. حيث تثبت تفاصيل ومحطات التاريخ العام لشعب الجنوب هذه الحقيقة، فصناعة الجنوبيين لتاريخهم الطويل عبر قرون من الزمن أفضى إلى النجاحات الكبرى بتشكيل هويتهم المستقلة وفرض سيادتهم على أرضهم بعد أن رسموا حدودها وتهيأت لهم كل الشروط الضرورية لممارسة حقهم في تقرير مصيرهم الذي جسدوه بالإعلان عن قيام دولتهم الوطنية الحرة المستقلة الكاملة السيادة في نوفمبر 1967م ونيلها الاعتراف الدولي والعضوية الكاملة في الأمم المتحدة ومؤسسات الشرعية الدولية.
لقد تزامن إعلان قيام دولة الجنوب مع زمن المد العارم للأيديولوجيات والأفكار المتنافسة والمتصادمة على اختلافاتها القومية والاشتراكية والليبرالية والدينية، وهو أمر ساعد على تناوب تياراتها على الإمساك بزمام إدارة الدولة، مما تسبب في ظهور ارتباطات التبعية السلبية للدولة بالمراكز الداعمة لهذه التيارات الأيديولوجية الأممية في المستويين الإقليمي والعالمي، قاد كل ذلك إلى ظهور خلل في التوازن بين الوطني والإقليمي والدولي، خلل قاد إلى تغييب الوطني الصالح تغليب أي من البعدين الإقليمي حينا والدولي حينا آخر حد وصوله إلى الإسقاط الكلي للمصالح الوطنية وفقدان الهوية والسيادة والقرار السيادي المستقل، بل والدولة بما حوت. هذا التاريخ امتد لحقبة محددة من الزمن بكل إخفاقاته كانت اليد الطولى في صناعته للمراكز الإيديولوجية العالمية عبر أدواتها المحلية.
ثانيا: التبعية السلبية للتيارات الإيديولوجية التي تعاقبت على الحكم في الجنوب لمراكزها الإقليمية والدولية شكل مدخلا للتلاعب بهويتنا الوطنية واستباحة السيادة على الأرض واغتصاب القرار السيادي المستقل لشعب الجنوب وحرمانه من حقه في تقرير مصيره، الأمر الذي تسبب في حرمان كل أبنائه من أبسط الحقوق الطبيعية التي ينبغي أن يتمتع بها الإنسان على وجه الأرض.
ثالثا: لقد عانى شعب الجنوب عبر أجياله المختلفة من الغزوات والاحتلال الخارجي، وكانت أكثرها ايذاء ودموية هي تلك الغزوات والحروب التي قادتها أنظمة الحكم المتعاقبة في الجارة الشمالية صنعاء، فتدمير حضارات العربية الجنوبية لممالك حضرموت وأوسان وقتبان تم بفعل الغزوات السبئية القادمة من الشمال، ثم تلتها الغزوات المدمرة التي قام بها الأئمة القاسميون وغزوات أحفادهم من أئمة صنعاء من أسرة حميد الدين ثم غزوات حكام صنعاء الجدد في العهد الجمهوري التي توالت في أربعة حروب (1972، 1979، 1994، 2015)، في إحداها تمكنوا من فرض احتلال عسكري لدولة الشمال على كامل المنطقة السيادية لدولة الجنوب استمر 30 عاما، وتم تحريرها منهم في حرب 2015م.
رابعا: كل تلك الكوارث التي تعرض لها هذا الشعب والتي أوصلته إلى حالة توصف أنها الأسوء من بين كل شعوب العالم، ما كان لها أن تحدث لولا الثغرات والنواقص والأخطاء السياسية القاتلة التي ارتكبتها النخب السياسية، ومن والاهم من قادة ونشطاء المجتمع المدني الذين أداروا الشأن السياسي في هذا البلد. حيث تعرض الكل هنا لأكبر عملية تزييف للوعي في التاريخ الإنساني، ترتب عليها تشكل إرادات واتباع سياسات تسببت في حدوث الانهيارات الكبرى التي شملت كل مجالات الحياة وقطاعاتها الوظيفية: الدفاعية والأمنية ومجالات المال والاقتصاد والإدارة وقطاعات التعليم والخدمات، بل اتسعت الانهيارات وزادت حدتها وطالت كل دعائم الوجود والبقاء لهذا الشعب بكل أفراده ومكوناته.
خامسا: كل هذه التفاصيل كانت كافية لإيقاظ الجنوبيين وإحساسهم بالصدمة والذهول، وظهور صحوة إعادة تشكيل وعيهم لذاتهم الوطنية، بما يعنيه من وعي لهويتهم الوطنية المستقلة ووعيهم طبقا لذلك لحقهم في السيادة على أرضهم وحقهم في استعادة قرارهم السيادي المستقل وتقرير مصيرهم وإعادة بناء علاقاتهم الحقوقية ببعضهم البعض على قاعدة تساويهم في الحقوق، واستعادة وحدتهم الوطنية، ووعيهم لندية العلاقة مع الشعوب الأخرى، ومنها شعب الجمهورية العربية اليمنية. فتشكلت بذلك الأسس الجديدة لإعادة صياغة المواقف والقرارات المصيرية الكبرى التي أعادت تشكيل وجه الجنوب الجديد وانطلاقه صوب استعادة كامل الحق الجنوبي المسلوب.
سادسا: على قاعدة الوعي الجديد، وبعد أن أصبح يشكل المضمون العام للوعي الجمعي لأبناء الشعب قرر الجنوبيون استعادة زمام المبادرة، والإمساك بصناعة تاريخهم بأنفسهم بعيدا عن المؤثرات الدولية والولاءات والتبعيات الأيديولوجية، وبعيدا عن الأحزاب والرموز التي تعمل بالولاءات الإيديولوجية. لقد أصبح الوطن بما يحمله من معاني الهوية والسيادة وتقرير المصير يمثل الولاء الأول لكل جنوبي، وهو مفتاح التحرك الشعبي الذي صاغ تاريخ الجنوب الجديد متخذا مسارا متدرجا عبر عدد من المحطات والمواقف المختلفة نوجزها بحسب الآتي:
*المحطة الأولى
الصدمة والصحوة وإعادة تشكيل وعي الذات الوطنية لشعب الجنوب، وإعادة تشكيل العلاقات الداخلية بين أبناء الشعب على قاعدة الإقرار بتساوي كل المنتمين لهذا الشعب ومكوناته الجغرافية والإدارية، والقبول ببعضهم، والتخلي نهائياً عن النهج الإقصائي الذي مثل السمة الأبرز للتيارات الأيديولوجية المتصادمة على اختلافها خلال المراحل السابقة، وتسبب في ما حدث من انقسامات وأضرار في الوحدة الوطنية لشعب الجنوب.
*المحطة الثانية
التحرر من التأثيرات السلبية للماضي وإعادة بناء العلاقة مع الحاضر على أساس الوعي الجديد والنظر صوب المستقبل. وكان العنوان الأبرز لهذه المحطة هو تبني الخطوة المصيرية في التسامح والتصالح بوصفها بوابة استعادة الوحدة الوطنية لشعب الجنوب، والنظر إليها بأنها التأسيس الذي ابتنت عليه فكرة استعادة الحق الجنوبي الكامل بكل تفاصيله هوية وأرضاً وقراراً سيادياً مستقلاً ودولة.
*المحطة الثالثة
معركة تحرير الجنوب وإحقاق الحق الجنوبي. هذه المعركة لها شقان: الشق السلمي والشق العسكري، وهما شقان متلازمان لعملية واحدة، يشترطان بعضهما البعض. وطبقاً لذلك تحددت الوظائف لكل من المرحلتين:
1- المرحلة السلمية: مرحلة الحراك الشعبي الجنوبي السلمي (2007 - 2015)، وكانت أهم وظائفه ومكتسباته هي:
- الأولوية وضعت للنشاط التنويري للتخلص مما لحق من أوهام وزيف في الوعي الجمعي وإعادة بناء الوعي الجديد القائم على فهم الواقع الحقيقي كما هو.
- ترسيخ وعي الهوية الوطنية المستقلة لشعب الجنوب والتخلي عن الأفكار القائلة باليمن الواحد وأن الجنوب جزء من شعب آخر أو فرع من أصل.
- تحديد ثوابت الحق الوطني الجنوبي وإعلانها أهدافا وطنية عليا لشعب الجنوب، وأنها تشكل مضموناً لقضية الشعب التي تم إعلانها وتبنيها من قبل كل قوى الشعب الفاعلة.
- تعبئة وحشد الشعب لخوض المعركة الفاصلة لتحرير الأرض واستعادة الوضع الحقوقي والقانوني لدولة الجنوب.
2 - مرحلة التصادم والحرب: التصادم بين الدولتين كان قائماً قبل الإعلان الوحدوي بينهما في مايو 1990م، واستمر بعد ذلك بسبب أطماع الدولة الشمالية بأراضي دولة الجنوب وثرواته؛ فللأسباب ذاتها كانت حرب الاحتلال الشمالي لأراضي دولة الجنوب عام 1994م، وفرض احتلال عسكري للجنوب دام ما يقرب ثلاثة عقود، مما أجج التصادم والصراع بينهما بلغ ذرواته في حرب الغزو والعدوان الشمالي عام 2015م الذي كان هدفه تثبيت هيمنة الاحتلال الشمالي على الجنوب، فالحرب العدوانية والأخيرة بهذا المعنى كانت امتداداً متصلاً للحروب السابقة بالنسبة للشمال، مثلما كانت الحرب الدفاعية التي خاضها ولا زال يخوضها الجنوب جاءت بوصفها امتداداً متصلاً للتحضيرات وعمليات التعبئة والحشد الشعبي وتجهيز الشعب لخوض معركة الدفاع عن وجوده وأسباب بقائه، ذلك يعني أن العوامل الداخلية كانت مهيأة لخوض الحرب الدفاعية عن الجنوب، وجاءت العوامل الخارجية المتمثلة بتدخل التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة لتجعل الحرب حاسمة وسريعة بالنسبة لتحرير الجنوب بفعل حضور التناغم بين الداخل الجنوبي والتحالف العربي (بين الوطني والقومي)، الأمر الذي يطيب عن خوض الحرب في الحالة الشمالية، فهم خاضوا الحرب العدوانية على الجنوب ويخوضونها ضد دول التحالف العربي لصالح أجندة إيرانية تتعارض مع البعدين الوطني والقومي، وهو ما يفسر تعثر الحسم في الحالة الشمالية.
تحددت وظائف ومهمات الحرب الدفاعية بالنسبة للجنوب بالآتي:
1 - تفكيك وطرد قوات الاحتلال القائمة في الجنوب منذ حرب 1994م.
2 - مقاومة وطرد القوات الغازية الجديدة في حرب 2015م.
3 - تفكيك الأجهزة الأمنية للاحتلال على اختلافها وطرد منتسبيها من الجنوب.
4 - خوض الحرب مع قوى الإرهاب الرديفة للقوات الرسمية للاحتلال التي نشرها في مناطق الجنوب وتصفية خلايا العدوان السرية.
5 - خوض الحرب إلى جانب قوات التحالف العربي للدفاع عن الأمن القومي العربي.
*المحطة الرابعة
المحطة السياسية ببعديها الداخلي والخارجي.
السياسة معنية بإدارة الواقع المتعامل معه، ولا تستطيع القيام بهذه الوظيفة إلا إذا كانت مستوعبة للحقائق الفعلية التي يقوم عليها الواقع والإقرار بها، ومن ثم ينبغي أن تمثل السياسة بأفكارها وتكويناتها البنائية وأفعالها مرآة لهذا الواقع ومتناغمة معه، وهذا يعني إعادتها إلى أصولها.
فأقامت بناء سياسياً موحداً لدولة موحدة لم يقبل به الواقع، لأنه لا يمثله، فحدث التصادم والأزمات والحروب، وسادت الفوضى وعدم الاستقرار، فأنهار هذا البناء السياسي بالكامل، وأفرزت الصراعات والحروب الواقع الحقيقي القائم على ثنائية الجنوب والشمال، والإقرار بهذه الحقيقة ينبغي أن يشكل نقطة البدء في مسار السياسة والبناء السياسي الجديد بشقيه الداخلي والخارجي.
1 - البعد الداخلي منظومة الحكم ومؤسسات السيطرة، وهو بناء ينبغي أن يمر بمرحلتين: المرحلة الانتقالية والمرحلة الدستورية:
أ- المرحلة الانتقالية ويتم فيها منظومة حكم انتقالي يتكون من:
- مجلس حكم انتقالي بدور السلطة السياسية لشعب الجنوب.
- جمعية وطنية مؤقتة تقوم بدور السلطة التشريعية.
- تشكيل حكومة جنوبية تقوم بدور السلطة التنفيذية.
- مجلس استشاري يضم الكفاءات العلمية والخبرات السياسية.
*الوظائف الانتقالية
- حسم موضوع الهوية بحدودها الجغرافية والسكانية وإعلان المسمى الجديد للهوية الذي يتطابق مع الواقع التاريخي الجغرافي والسكاني للجنوب، مع ضرورة تجنب التسميات الجهوية، فالهوية تعني التمايز عن الأغيار أي ألا يشترك معك الآخر في نفس المسمى، وبهذا المعنى تسميات اليمن الجنوبي والجنوب العربي تسميات جهوية تشترك فيها كل شعوب ودول جنوب الجزيرة العربية، وعليه يمكن بحث المسمى الجديد للهوية بين خياري دولة حضرموت العربية وعاصمتها عدن أو عدن العربية.
- إصدار الإعلان الدستوري المؤقت لإدارة المرحلة الانتقالية.
- إعادة بناء مؤسسات الدولة الإدارية والأمنية والعسكرية ومؤسسات المال والاقتصاد والإعلام.
- حماية مكتسبات النصر العسكري واستكمال ما تبقى من تحرير الأرض غير المحررة (مكيراس وبعض مناطق حضرموت الداخل).
- الحفاظ على أمن واستقرار الجنوب وتحسين الوضع المعيشي والخدماتي للمواطنين.
ب - المرحلة الدستورية:
- إنجاز الدستور والاستفتاء عليه وتنظيم انتخابات في عموم الجنوب تمهيداً لتأكيد فك الارتباط وإعلان الدولة.
- الدخول في تفاوض ندي مع الطرف الشمالي حين يكون الشمال جاهزا لذلك تحت إشراف عربي ودولي للبحث في شكل العلاقات المستقبلية بين الدولتين.
2- البعد الخارجي:
- التأكيد بأن دولة الجنوب الجديد هي نفسها دولة الجنوب التي قامت في 1967م أرضاً وشعباً وسيادة ونالت العضوية الكاملة في الأمم المتحدة وتمثل جزءا من النظام الإقليمي العربي مثلما هي جزء في النظام الدولي وما ينطبق على الكل ينطبق على أجزائه والعكس.
- التركيز على استعادة الوضع الحقوقي والقانوني للدولة في مؤسسات الشرعية الدولية وفي المؤسسات الإقليمية.
* أستاذ الفلسفة السياسية المساعد - جامعة عدن
تحليل / د. صالح طاهر سعيد

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى