ذاكرة ضعيفة

> راجح أبو رائد

> من خلف الصفين الأماميين ، حيث تحدد مكانه مسبقا، يزحف ليواجه الاضواء مباشرة،
يملأ بطنه بالهوى. ويرفع جناحيه بطريقة تلحظها الأعين التي اعتادت على مقارنة حجمه بالآخرين.
ينصب عموده الفقري. ويمط رقبته ليبدو في حجم مقارب للأجساد المترهلة الجاثمة على المقاعد الأمامية بجمود.
شفتاه لاتتوقفان عن الوشوشة في جوانب الرؤوس المجاورة له.
يفعل ذلك بدون ارتباك. مستعد لأي ردة فعل متضايقة بابتسامة خانعة إلى حد يثير الاشمئزاز..
يربت على كتف صاحب المقعد الذي يقع أمامه بلطف بالغ..
يلتفت إليه في هدوء وعلى وجهه علامات الجدية !..
يقابله بابتسامته الخانعة المستسلمة ويطلب من روحه الكريمة أن تسمح له بالقعود على كرسيه ليتحدث إلى الرجل الذي يجلس أمامه في الصف الأول ومن ثم يعود لمكانه. ويكون خادمه إلى آخر رمق..
وفيما لم يجاوز من الوقت ما احتاجه الرجل لعقد حاجبيه والنهوض مبتعدا عن مكانه. قفز صاحبنا للأمام وقعد بحركة رشيقة وقد ظهرت عن وجهه علامات الخنوع واكتسى بملامح التأهب..
استراح على المقعد المتقدم. وخلافا لظن الرجل الذي تظاهر بالانشغال ليتفادى ابتسامته المؤذية عند التفاته إليه ليؤدي الشكر غير المرغوب فيه لم يفعل...!
فشعر الرجل بالارتياح. وفي لمح البصر استعاد الوجه الذهني المستدير ملامح الخنوع ثانية..
لم يبق أمامه ليغدو في المقدمة غير هذا الصف الطويل من الأجساد المملة!..
وتقلص وجهه في ابتسامة عصبية أكثر تذللا واستسلاما.
يتذكر المرء وجه كلب مخلص أدرك خطأه. فمد رأسه على الأرض وأخذ يبصبص بذنبه أمام مولاه الغاضب الذي يقف عند رأسه يهز عصا غليظة بصمت.
إطالة النظر في هذا الوجه تثير الكآبة..
لمس بأطراف بنانه القصيرة البدينة جانب كتف الرجل الذي أمامه.
هنا لا تكفي الابتسامة المازوخية.
الآن يطبق كفيه أمام وجهه ويحني رأسه بخشوع.
(هل يسمح لي قلبك الرحيم بالجلوس في مكانك سيدي؟..
أترى ذلك الرجل الممتاز الذي يقف على المنصة؟..
إننا نعمل في مهنة واحدة منذ فجر العمر. ولكن حظه قاده إلى قلوب مرهفة وحساسة. فلم أصل إليه بعدها!..
لذا أتوسل إليك.. أتركني أجلس مكانك لحظة!!)..
أحس الرجل بالضيق ولكنه لم يجد بداً من إجابة رجاء هذا الوجه الأملس الذي تطبعه ملامح الهندي المتدين أمام تمثال الإلهة بوذا..
الآن أضواء الكاميرات تلمع في جبهته مباشرة..
هو أمام المنصة تماما والجميع خلفه..
لم توضع هذه المقاعد المريحة في المقدمة عبثا..
وتفحص الرجل، الذي يتوسط المنصة بعينين نصف مقفلتين..
ذراع أو اثنتان فقط يفصلنا.. ولكن هذا ليس مهما الآن..
المهم هو هل بإمكانك أن تظل في مكانك؟!...
ومد قدميه القصيرتين الممتلئتين لأقصى ما في وسعهما من تمدد، وقد وسع ما بينهما ومال بجذعه المكتنز.. واضعا أصبعيه: السبابة بجانب أذنه، والإبهام أسفل الذقن.
وقد اكتسى وجهه هذه المرة ملامح الصرامة والوقار.
راجح أبو رائد

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى