الصراع في اليمن أصبح بين العقل واللا عقل وبين الشعبين والسياسة

> تحليل / د.صالح طاهرسعيد*

> إن إصلاح الواقع وإخراجه من فوضى الأزمات والحروب ينبغي أن يسبقه فعل إصلاح العقل وتصويب الأدوات والمفاهيم المرتبطة بتشكيل وإصلاح الوعي والإرادات، فتخريب الواقع في الحالة اليمنية بدأ من بوابة تخريب العقل، وتزييف الوعي، وما ترتب على ذلك من تبني إرادات، وسياسات تخالف الواقع الحقيقي وتتصادم معه، وما يجري في واقع الحال اليمني من فوض وأزمات وحروب ليس إلاّ ثمرة لهذا التصادم.
يتعامل العقل مع الواقع من نافذتين: نافذة يقرأ بها الواقع ويعي حقائقه، وعلى قاعدة هذا الوعي يتم تفعيل النافذة الثانية المرتبطة بتشكل الإرادات وصياغة السياسات الموجهة لإدارة هذا الواقع، وما حدث على امتداد الخمسين عاماً الماضية، كان نتاجاً طبيعياً لتعطيل عمل النافذة الأولى وترك الثانية نهبا للإيديولوجيات والأهواء التي شكلت الوعي وصاغت السياسات وشكلت الإرادات بناء على أوهام لا صلة لها بالواقع الحقيقي، وبتعطيل النافذة الأولى لعمل العقل حدث الانفصال التام بين ثلاثية الواقع الحقيقي، والعقل، والسياسة؛ ففقدت السياسة شرعية تأييد ودعم الواقع الذي تتعامل معه وفقدت مشروعيتها، وأصبح الصراع في الحالة اليمنية بين العقل واللاعقل، بين الشرعي واللاشرعي، بين الشعوب والسياسة.
أن أخطر الطرق التي اتبعت في عمليات تزييف الوعي وتشكيل الإرادات وبناء السياسات المخالفة لحقائق الواقع هي استخدام المفاهيم الخطأ في المكان الخطأ وتغيير مضامينها وتحميلها مضامين لا علاقة لها بمضامينها الحقيقية.
فمفهوم اليمن مثلا تم تحويره من مفهوم جغرافي جهوي يحمل معنى الجنوب للدلالة على الموقع الجغرافي لجنوب الجزيرة العربية، واستخدامه اسما لكيان سياسي كان اسمه السابق المملكة المتوكلية الهاشمية التي غيّر اسمها إلى المملكة المتوكلية اليمنية لتدعي بأراضي جنوب الجزيرة العربية كلها بأنها جزء من سيادتها.
طبقا للتزييف الأول لمفهوم «اليمن» وما أعطي له من دلالات سياسية لا صلة لها بالواقع التاريخي والاجتماعي والسياسي تم نحت المفاهيم المتفرعة عنه مثل مفهوم «اليمن الواحد» ومفهوم الشطرين بدلا عن مفهوم الشعبين ومفهوم «الوحدة اليمنية» - المفهوم المضلل الذي أريد له حجب حقيقة معادلة الواقع الحقيقي الذي أنتجه التاريخ الطويل الاجتماعي، والسياسي لهذه المنطقة المتمثل بالشعبين والدولتين، (جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية)؛ فباسم «الوحدة اليمنية» تم إلغاء الشعبين والدولتين الشرعيتين وحلت محلهما حالة اللا شرعية والفوضى والأزمات والحروب بعد أن حلت الإرادات الإيديولوجية والأهواء محل إرادات الشعوب.
مفهوم الشرعية وتجلياتها العملية في تاريخ الشعوب
يرتبط مفهوم الشرعية بشرعية حق الوجود والبقاء الإنساني بما يحمله من أفكار الهوية والسيادة، وتقرير المصير، والتنظيم البنيوي الشعوبي، والاجتماعي والسياسي الحافظ لهذه الحقوق، مما يعني أن عناصر الشرعية هي:
1- التعبير عن شرعية حق الهوية الوطنية المستقلة لكل شعب.
2- التعبير والدفاع عن حق صاحب الهوية في السيادة على أرضه.
3- ما يعبر ويجسد حق الشعب في تقرير مصيره.
4- ما يعبر ويقر بالإطار البنيوي للشعب، بأبعاده الاجتماعية والسياسة.
ولا صلة بمفهوم الشرعية لأي عمل أو بناء اجتماعي أو سياسي يخالف ذلك، بتجاهل هذه العناصر أو إسقاط بعضها أو إلغائها أو تعديلها على غرار ما حدث ويحدث في الحالة اليمنية من مايو1990م إلى اليوم.
لقد عرف تاريخ الشعوب ثلاثة أنواع للشرعية يمكن بيانها على النحو الآتي:
أولا: الشرعية الثابتة، وهي شرعية الشعوب وشرعية حقوقها الثابتة المتمثلة بحقوق الهوية والسيادة وتقرير المصير، حقوق ثابتة بثبات وجود الشعوب وبقائها وغير قابلة للنقض شرعتها السماء وأقرت بها الإنسانية وقوننها القانون الوضعي وأصبحت مبادئ قام عليها النظام الدولي ومؤسساته الشرعية؛ فالشرعية بهذا المعنى هي الحق وقد تقونن وأصبح ملزماً.
ثانيا: الشرعية المتبدلة وهي الشرعية المتفرعة عن الشرعية الأصل وتمثل اللحظة التي من خلالها يراد تحقيق المواءمة والتناغم بين ثوابت الحق ومتغيرات السياسة وجعل الهياكل البنيوية للشعب ومؤسساته الوطنية متماسكة تحقق التوازن والتكامل والتآزر مع بعضها ومع الشعوب الأخرى.
وكما هو معلوم أن الدولة تتألف من ثلاثة عناصر (أرض وشعب وسلطة)؛ فإن الشرعية المتبدلة تدخل ضمن التبدلات الدورية التي تحدث داخل حلقة السلطة ومن هنا ارتباطها بمفهوم المشروعية المتفرع عن الشرعية، حيث تكتسب السلطة مشروعيتها إذا كانت محكومة في ممارسة السلطة بالشرعية الثابتة وثوابت الحق المشمولة تحت هذا المفهوم وإرادتها السياسية تتطابق مع إرادة الشعب.
ثالثا: الشرعية الانتقالية: ارتبط ظهور الشرعية السياسية بصورة عامة بظهور الشعوب وتشكل دولها الوطنية، وهذا يعني أنها ترتبط بالحق بعد أن تحددت حدوده بين أجزاء التنوع الإنساني (الشعوب)، أما في مراحل ما قبل التحديد فلا وجود لشيء اسمه شرعية سياسية مرتبطة بحدود جغرافية وديمغرافية، فقد كانت الأرض حق عام للناس كافة، يسيطر عليها مشهد أقرب إلى أن يوصف بالعالم الطبيعي منه إلى العالم الإنساني، السائد فيه الفوضى والصراع والتصادم- إنه الصراع من أجل البقاء.
لكن وعلى الرغم من مآسيها فقد أنتجت اقتسام الحق بين المكونات الإنسانية على الأرض وظهرت الشعوب وتحددت حقوق كل شعب وصارت محكومة بحدود جغرافية وسكانية تجاوزها يعني الحرب مع شعب آخر. ومن هذا المشهد الذي عاشته الإنسانية استعارت بعض الدوائر الأولية مفهوم «الفوضى الخلاقة» المستخدم حديثاً لاستخدامه أداة لخلق «شرق أوسط جديد» إنجاز هدم البناء الاجتماعي والسياسي القائم في المنطقة.
وما يحدث في اليمن حالة مصغرة لمشروع «الشرق الأوسط الجديد»، فمصطلح الشرق الأوسط الجغرافي الجهوي أريد له أن يحل محل مصطلح «العالم العربي» بغية تقويض الهوية العربية وتعويم الحقوق المحددة للأمة وشعوبها تمهيداً لإدخال شعوب وأعراق أخرى وإعطائها حقوق داخل الحق العربي على غرار ما حدث في أرض فلسطين. وفي السياق نفسه ظهر مصطلح اليمن في عشرينات القرن الماضي ليدل على هوية سياسية مبتدعة أريد لها أن تقوض الهوية الوطنية المستقلة للشعبين والدولتين وإحلال محلها هوية جديدة أطلق عليها مسمى «اليمن الجديد» كما يسمونه. وهو مشروع أدخل الدولتين في نفق مظلم، نفق الأزمات والصراع والحروب، نفق الفوضى التي لا تنقطع، قوض فيها الحق وتم تغييب الهويات وإلغاء السيادات وكافة الحقوق السياسية المترتبة عليها وصارت القوى السياسية تتنقل من حوار إلى حوار وتطل علينا بحلول، تتحدث عنها أشبه بحديث فاقد الذاكرة، مرة تقترح أن اليمن واحد، ومرة أخرى تقول إن اليمن هو من 4-7 أقاليم أو مخاليف، وثالثة تقول إن اليمن 6 أقاليم، ورابعة إن اليمن 2 أو 4 أو ما بينهما، ولا ندري لماذا الإصرار على تجاهل أن اليمن شعبان ودولتان بحدود دولية محددة ومعترف بها دولياً.
وفي مثل هذه الظروف في الحالة اليمنية أو في حالات أخرى تظهر الحاجة لظهور شرعية مؤقتة أطلق عليها مسمى الشرعية الانتقالية بغية التخفيف من فوضى الصراعات والحروب وتمهيد الطريق لاستعادة الشرعيات المفقودة، وهي في الحالة اليمنية شرعية الشعبين والدولتين وإدخالهما في تفاوض ندي لتقرير شكل العلاقات المستقبلية بينهما.
وبهذا المعنى تمثل الشرعية الانتقالية شرعية مؤقتة وظيفتها إملاء الفراغ الذي أحدثه غياب الشرعيات الثابتة والشرعيات المتبدلة المتفرعة فيها، تقوم على التوافق بين أطراف الشرعية الثابتة وهما في الحالة اليمنية شعبي الجنوب والشمال. وموجبات قيام هذا النوع من الشرعية هو منع العودة إلى الفوضى وحالة اللا شرعية التي سادت قبل ظهور الشعوب وتشكل دولها الوطنية والحيلولة دون العودة إلى تكرار دورات التاريخ.
فبالإضافة إلى التخفيف من فوضى الصراعات والحروب، فان الوظيفة المركزية للسلطة الانتقالية ( الشرعية الانتقالية) هي تهيئة الشروط لعودة الشرعيات الثابتة المرتبطة بتحديدات الحق بأبعاده الجغرافية والاجتماعية والسياسية المعترف بها قبل أن تتسبب السياسة وأدواتها في تقويضه في اتفاق مايو 1990م والحروب التي تلتها.
مسارات الحل السياسي
مثلما تشكلت المشكلة عبر عملية هدم متواصل طال كامل البنيان الشعوبي والاجتماعي والسياسي في كل من الجنوب والشمال، فإن الحل كذلك هو عملية إعادة بناء لها ثلاثة أبعاد:
1- البعد الأول ويرتبط بالفكرة العامة لإعادة البناء وما يتصل بها من ضرورة إعادة تشكيل وعي الذات الوطنية ووعي تحديدات الحق والعلاقات الحقوقية والإقرار طبقا لذلك بحقيقة الشعبين والدولتين بدلا من زيف اليمن الواحد أو زيف اليمن المتعدد الأقاليم.
2- البعد البنيوي طبقا للبناء التاريخي الحقوقي والاجتماعي والسياسي المتمثل بالشعبين والدولتين وطبقا للمكونات الداخلية لكل طرف تتم إعادة الهيكلة السياسية والإدارية التي تمهد للاعتراف بالحقوق الثابتة لكل طرف (هوية وسيادة وتقرير مصير).
3- البعد الثالث ويرتبط بمسار الحل السياسي وهنا يمكن التمييز بين حلين:
أ- الحل الانتقالي- حل يعيد وضع المرحلة الانتقالية في مسارها الصحيح، بحيث تقوم على الإقرار بالمعادلة الثنائية بين الجنوب والشمال وتعاد الهيكلة السياسية طبقا لذلك. حكومة في الجنوب لإدارة الجنوب وحكومة في الشمال لإدارة الشمال والرئاسة مشتركة بسقف زمني يتم الاتفاق عليه. يتولى كل طرف خلال المرحلة الانتقالية إعادة بناء مؤسسات الدولة في دائرة اختصاصه مع الالتزام بالحدود الدولية بين الطرفين المعروفة حتى عام 1990م وإلغاء كافة التعديلات الإدارية التي خلقت تداخلا جغرافيا وسكانيا بين الطرفين.
ويمكن تسمية خطوات ووظائف المرحلة الانتقالية بخطوات وإجراءات إعادة التأسيس والسير صوب إعادة الأشياء إلى أصولها الحقيقية.
ب - الحل النهائي- تجري انتخابات في نهاية المرحلة الانتقالية داخل كل طرف تليها عملية الدخول بمفاوضات ندية بين الطرفين تحت إشراف عربي ودولي بشأن تحديد مستقبل العلاقة بين الشعبين والدولتين بين الاتفاق على إقامة اتحاد كونفدرالي بين الدولتين أو انصراف كل دولة لإعادة بناء ذاتها وترك موضوع الاتحاد لإنضاجه على المستوى العربي وتكون الدولتين جزء من المسعى العربي العام.
*أستاذ الفلسفة السياسية المساعد
كلية الآداب - جامعة عدن
تحليل / د.صالح طاهرسعيد*

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى