عدن.. الجرائم لم تترك وقتا لالتقاط الأنفاس المغموسة برائحة البارود والدم

> كتب/ د. محمد عمر باناجه

>
​توالت جرائم القتل بصنوفها المختلفة، حتى أنه لم تترك الواحدة منها للتالية متسعا من الوقت لغسل الحزن والتقاط الأنفاس المغموسة برائحة البارود والدم.
أصبح المرء منا يصحو كل يوم على أخبار القتل، وأضحت جرائم القتل ظاهرة ملازمة لحياتنا في حين كانت عدن إلى فترة قريبة ماضية، توصف بمدينة الحب والسلام.
ما يجب أن يسترعي اهتمامنا، أن الأمر لم يعد يقتصر على التكرار المتوالي لعدد الجرائم، بل تعاظم في نوع وبشاعة الجرائم المرتكبة، التي أضحت الجرائم الجنائية تسجل معظمها، بعد أن تراجعت نسبيا الجرائم السياسية (الاغتيالات، التفجيرات... الخ).  
ومن نماذج تعاظم بشاعة جرائم القتل المرتكبة، تلك الجريمة التي طالت عالمة علم الأحياء د. نجاة علي مقبل وابنها المهندس الشاب وحفيدتها في منزلهما الذي يفترض أن يكون ملاذهم الآمن... ومتى وقعت؟ يا للغرابة!! في خواتيم شهر شعبان المبارك، في ليلة كان الناس فيها يترقبون في بيوتهم الاعلان عن ثبوت رؤية الهلال إيذانا بدخول شهر الصيام والعبادة. تلتها جريمة أخرى أقدم فيها أخ على قتل أخيه في فاتح أيام شهر رمضان .. يا الله.. لا حرمة لشعبان الكريم ولا لرمضان الفضيل، أفضل الأشهر عند المجتمعات الإسلامية عامة..
ماذا دهانا في هذا المجتمع الذي كان بالأمس القريب يتصف بالمسالم، المتسامح، الودود؟!!
جرائم بشعة هزت - وتهز - كيان المجتمع، وتعبر بشكل جلي على انهيار كارثي للمنظومة الأخلاقية والقيمية فيه، أخذت ملامحه تبرز بوضوح.
 الكل يصرخ ماذا يجري في عدن، ولعدن؟!
معظم من حاولوا الإجابة عن هذا السؤال أرجعوا الأسباب - حسب تقديراتهم - الى تعدد الأجهزة الأمنية وعدم كفاءتها وتشتت تبعيتها... وذهب البعض منهم الى إرجاع الإسباب إلى غياب أو ضعف أداء الجهاز القضائي لمهامه، وأيضا إلى عدم تفعيل أقسام الشرط في المديريات والأحياء العدنية.
 كل ما كتب حول أسباب هذه الجريمة ومثيلاتها ما من شك له نسبة في مقاربة تشخيص اسباب تفشي ظاهرة القتل، لكن السؤال الذي يقفز من بين ثنايا الواقع (العدني الذي تشكل إثر اندحار غزاة عدن) هل اكتملت مقاربة تشخيص أسباب تفشي ظاهرة القتل واسترخاص هدر دماء الأبرياء؟ هل نعزو تفشي هذه الظاهرة إلى أسباب مؤسسية تتعلق بضعف أو غياب المؤسسات الرسمية المعنية بحماية المواطن ، والدفاع عن القانون ، أم أن هناك وجه آخر للظاهرة نتعمد عدم النظر إليه او نتجاهله عند تشخيص الأسباب؟
دون إعادة الاعتبار للأخلاق والمنظومة القيمية
لن تتمكن الأجهزة الأمنية ولا القضائية من وقف الجرائم

القتل بدم بارد ، القتل من أجل حفنة من الريالات ، القتل لأجل القتل فقط ، كلها جرائم لم تحتوها قوانين، لأنها جرائم فوق ما تصوره المشرع، ولأن مرتكبي مثل هكذا جرائم لا يهمهم نوع العقوبة ولا يقيمون وزنا لروادعها القانونية.
إذن.. أين يجب علينا أن نبحث عن أسباب ارتكاب هذه الجرائم البشعة؟؟. الجواب ببساطة في إهمال المجتمع لرعاية وتقوية المنظومة الأخلاقية القيمية.
والمسؤولية عن ذلك تقع على عاتق كل المجتمع بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية، وفئاته وشرائحه وكل فرد فيه. دعونا نفند ذلك، لنشحذ همم المجتمع بكافة شرائحه ومؤسساته للقيام بواجبهم لإنقاذ هذا المجتمع:
- المدرسة.. ماذا يحدث في مدارسنا لاطفالنا الذين تبدأ ملامح شخصياتهم بالتشكل في هذه المرحلة. لماذا لاندرسهم مادة الأخلاق ، لماذا لا نزرع في نفوسهم حب الجمال وحب الوئام وحب الآخر؟ لماذا .. ولماذا.. ولماذا؟
- المسجد.. صحيح ان المسجد وجد للعبادة، لكن يمكن أن يكون مدرسة اخرى في الحياة لكافة الفئات العمرية، فخطبة الجمعة يمكن ان تكون دروسا أسبوعية في تعلم المنظومة القيمية للاسلام.. كالصدق ، الإيثار ،  وتحريم قتل النفس وتبيان هول العقوبة الالهية لمن قام بقتل نفس. فلماذا الإصرار على أن تبقى خطب الجمعة تكرار واستجرار لما قيل قبل قرون من الزمن.. لماذا.. ولماذا.. ولماذا؟
- الجامعة.. تشكل الفئة العمرية لمن هم في سن الالتحاق بالجامعة أكثر فئات المجتمع حساسية وقابلية للتأثير والتأثر.
أليس مفيدا للمجتمع ان تحتوي برامجنا الاكاديمية في الجامعة ضمن خططها الدراسية على مادة علم الأخلاق .. وعلم الجمال. أم ان ذلك يعتبر ترفا أكاديميا لا يحتاجه الخريج كما يزعم البعض. أﻻ يمكن أن تدير الجامعة ورش عمل وحلقات نقاش مستمرة تنصب مواضيعها في القضايا والمشكلات التي تهم المجتمع ودراسة السبل الكفيلة بتجاوزها.. لماذا.. ولماذا.. ولماذا؟!!
- منظمات المجتمع المدني . إنها حلقة وصل بين الفرد والمجموعة وبين المجموعة والمؤسسات.. فهي الوعاء الواسع لبناء العلاقات الاجتماعية السليمة المتوازنة التي يمكن أن تلعب دورا كبيرا بين أوساط الشباب على حب العمل الجماعي المثمر ونبذ كل أنواع الانحراف السلوكي وغرس قيمة الإيثار لدى الفرد لصالح المجموعة. ناهيك عن دور المنظمات المتخصصة منها بتثقيف الشباب وتعريفهم بمضار تعاطي المخدرات بكافة أنواعها على صحتهم وعلى المجتمع.
دون الاهتمام بإعادة الاعتبار للأخلاق والمنظومة القيمية للمجتمع كمهمة أولى يقع تنفيذها على عاتق الجميع، لن تتمكن الأجهزة الأمنية ولا القضائية من وقف الجرائم.
إنما الأمم الأخلاق مابقيت...
فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا.
فهلموا بنا متكاثفين، لإنقاذ المجتمع والأمة من الخطر الماحق، الذي بدأت تدق أجراسه على مسامعنا.
كتب/ د. محمد عمر باناجه

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى