كفاية تخلف.. عدن مدينة كوزموبوليتانية

> د. مروان هائل عبدالمولى

>
من المعروف منذ العصور القديمة أن الاسم له تأثير كبير وأحيانا خطير على شخصية ومصير وقدر مالكه، وقد كانت هناك دراسة لقيمة اسم الشخص من قبل المنجمين وعلماء النفس والاجتماع، الذين أضافوا إلى دراسة اسم الشخص اللقب العائلي أو الاجتماعي، واستخدموا في هذا الجانب مجموعة متنوعة من النظريات والدراسات للكشف عن أهمية الاسم واللقب حتى ينجح مصير الطفل في المستقبل.

في معظم الأحيان اللقب يؤثر بشكل إيجابي أو سلبي على شخصية وقدرة الشخص، ولكل شخص أصل ولقب معين، إذ يرتبط تاريخ اللقب بمنطقة أو مصير أو شخصية أو الأفعال أو الأسلاف.. ولكن بعض الألقاب في  الجنوب أصبحت منفرة وليست مصدر فخر كما في السابق، وفي عدن بالذات، التي احتوت كل ألقاب وأسماء العائلات من الداخل الجنوبي ومن الخارج دون أي مشاكل. لكن هناك البعض غير المطلع على خصوصية المجتمع في عدن يبحث عن البلبلة والفوضى ولا يريد أن يفهم طبيعة المدينة وسكانها، وخاصة تلك الفئة من البشر أصحاب العقول الضيقة في عدن، الذين لا يعرفون أن هذه المدينة "كوزموبوليتانية"، وهذه الكلمة كان بعض الإنجليز يطلقونها على عدن وأصلها يوناني ومكونة من شقين: "كوزموس" والتي تعني (العالم) و"بوليس" وتعني (مدينة)، والإنجليز لم يطلقوا هذه الكلمة اعتباطاً على عدن، وإنما بسبب أن مدينة عدن حينها كانت جنة تعايش حقيقي بين الأديان والأقوام، وتحمل صفة المدينة المسالمة المتعددة الثقافات والمنفتحة  على العالم، تنافس "إزمير" و "نيسا" و "بيروت"، لانفرادها في التعامل الراقي مع مسائلة المواطنة وقوة الترابط الاجتماعي والتسامح الديني والاحترام المتبادل بين مكونات المجتمع في هذه المدينة الساحرة.. تناولها وكتب عنها عدة كتاب وشعراء وفنانين عرب وأجانب عبر الزمان.

الذي لا أقدر أفهمه ولا أستوعبه هو استخدام وتعاطي البعض بشكل مفرط للألقاب المناطقية الضيقة التي تراها على واجهات المحلات والمعارض والسيارات وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنها ماركة تجارية، البعض يستخدمها كنوع من التقليد والأعراف، وهذا لا غبار عليه.. ولكن المشكلة في البعض الآخر الذي يتبجح بها عليك وكأنه من سلالة الأنبياء.

 الغريب أن أبطال هذه الألقاب هم من خارج جغرافية عدن، الأمر الذي يكشف عن ميراث وعي متخلف وسلوك صبياني لا مسئول ومسحة نفسية مختلة وعدم الثقة في النفس، وحركة تثير الاشمئزاز والغثيان من أجل تلميع الصورة المناطقية المتخلفة في عدن.. وهذا التلميع سيؤثر مع الوقت على طبيعة العلاقات والنسيج الاجتماعي في عدن الكوزموبوليتانية، التي سيعود موقعها العالمي عاجلا أم أجلا، كجزء مهم من حركة الاقتصاد العالمي.

تصوروا أن تصل الحالة بأن الشخص منا لم يعد بإمكانه أن يخاطب أحد أصدقائه المخلصين دون مناداته بلقبه المناطقي.. لا أحد ينكر الأصول والألقاب، ولا يمكن التشكيك في مصداقيتها، لكن حينما يتحول اللقب إلى ظاهرة مرضية وتعامل يومي يحمل في طياته التكبر والتعالي على بقية مكونات مجتمع مختلط ومتعدد الأعراق والأصول، هنا تكمن الخطورة.. وهذه الظاهرة المرضية الخطيرة زادت بعد الحرب الأخيرة وتحرير عدن، والتي أفرزت نوعا جديدا لم تعرفه المدينة من نسخ "رامبو" و "ترميناتور" و "شمشون"، تتباهى باللقب المناطقي وحمل السلاح في شوارع وأسواق ومحلات عدن، وهي مناسبة لتوجيه كلمتين لهؤلاء اللاهثين وراء التعامل بلغة الألقاب المناطقية والقبلية، كلمتان فقط (كفاية تخلف)، فقد طفح الكيل من هذه الممارسات البدائية، خاصة وأن البعض يمارسها وهو في مناصب كبيرة في الدولة، ولا يجد حرجاً في التعامل المفتوح مع أبناء منطقته بالذات، الذين يحملون نفس اللقب، فتجد الحارس والسائق والبواب والسكرتير والفراش يحمل نفس اللقب المناطقي، وإن دخلت أنت وعرفت بنفسك ينظرون إليك بسخرية وكأنك قادم من كوكب آخر.

لم يتعرض سكان عدن ومدينتهم للإذلال والاستغلال والعنف والقمع، غير من النخب الحاكمة ومن بعض أبناء المناطق التي ينتمون لها من حملة الشعارات المناطقية والطائفية والقبلية وتجار الدين، الذين وصلوا إلى عدن ليس حباً فيها ولا رغبة في إثرائها وتنميتها وإعمارها، ولا حباً في التنوع والتعدد، ولا في معرفة الآخر والتعايش معه، بل جاؤوا بسبب الامتيازات التي حصل عليها أسلافهم عن طريق الحروب والعنف والانقلابات، التي مكنتهم من الثراء السريع على حساب أبناء المدينة نفسها.. ولهذا نجد اليوم الكثير من أبناء عدن الشرفاء يحنّون إلى الحقبة الكوزموبوليتانية، ويتذكرون العدل والاحترام، وزيارات جيرانهم أيّ كانت طائفتهم أو دينهم والأكل معهم وتبادل التهاني والحلويات في الأعياد معهم، ويتقاسمون الفرحة والذهاب في رحلات أسرية سويّاً.

المناطقية والقبلية، أشكال اجتماعية تقليدية تجاوزها الزمن، معيقة للتطور والديمقراطية والتنمية، وأداة للاسترقاق، وبناء الدولة الحديثة، يتم دائما على أنقاض المناطقية والقبيلة وليس عبرهما. وما تشهده عدن اليوم من هبة مناطقية مريضة ليست إلا مجرد مظهر من مظاهر ضعف الدولة وضعف الشعور الوطني.. ويا ليت ظاهرة المناطقية هذه تكون مجرد موضة عابرة لمن فقدوا الثقة والمصداقية في أنفسهم وأمام الرأي العام الجنوبي، لأن المناطقية ليست أداة سياسية، وليست وسيلة تجمع، ولا يجب أن تكون أداة دمار وتفرقة.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى