«إن الحد الأدنى من الأجور في اليمن تراجع إلى أقل من 45 دولارا في الشهر، مقارنة بـ 95 دولارا قبل الحرب، وفقد الموظفون أكثر من نصف دخلهم بسبب تراجع العملة». صحيفة «الشرق الأوسط»
محمد نجيب
محمد نجيب

فزعت وهبت المملكة العربية السعودية، حماها الله من كل عين وسوء وشر ومدبر، أواخر العام 2017م، عقب سماعها استغاثة مدوية ونداءً يائسا مقرونا بمعرفتها وإدراكها المعاناة والشقاء اللذين يعانيهما المواطن اليمني في حياته ومعيشته اليومية وخاصة في صعوبة حصوله وتأمين الحد الأدنى من أساسيات السلع الأساسية الغذائية بسبب «تضخم» أسعارها المستمر دون تراجع أو توقف. ويعزى ذلك بدرجة أساسية إلى تدهور القوة الشرائية للريال، «سعر صرف الريال اليمني مقابل الدولار»، والذي وصل إلى مستويات مرعبة كانت حتما ستؤدي إلى كارثة اقتصادية واجتماعية على مستوى أغلب سكان اليمن.

وحينها اجتمع سيادة الرئيس عبد ربه منصور هادي وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة العربية السعودية، وخرج (لقاء الخير) هذا بإقرار وموافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز على «حزمة» مساعدات ومعونات اقتصادية كان على رأسها «إيداع» وديعة سعودية بـ 2 مليار دولار في حساب البنك المركزي اليمني من أجل تخفيف وإبطاء وتيرة ووقف تدهور سعر صرف الريال اليمني مقابل الدولار الأمريكي.

وبالفعل، ومن حينها تحسن سعر صرف الريال «هامشيا» مقابل الدولار من متوسط سعر فوق الـ500 + ريال/$ إلى متوسط سعر صرف للريال مازال متدنيا ألا وهو 490 ريال/للدولار ظل باقيا دونما تحرك إيجابا في الاتجاه «الصعودي» مقابل الدولار.
مما يعكس بقاء تضخم أسعار المواد والسلع الأساسية (كلها مستوردة) واستمرار ضعف القوة الشرائية للمواطن مما سيؤدي  إلى تقليص كميات استهلاكها و/أو التوقف عن شرائها تماما.

وعليه، أعلن عقب تسلم البنك المركزي اليمني الوديعة السعودية في شهرمارس 2018م عن مشروع «تسخير «وديعة الـ 2 مليار دولار (كلها، معظمها، جزء منها؟... لا ندري !) السعودية في «دعم» اسعار صرف الريال اليمني مقابل الدولار في تمويل واردات السلع الغذائية الأساسية الـ 5 المذكورة، تحت مسمى «التغطية المسبقة للاعتمادات المستندية الخاصة باستيراد السلع الأساسية «مسمى طويل!».

ولأجل تبسيط هذا العنوان (التغطية المسبقة.... الأساسية) الفني للقارئ المؤقر وكذلك عند عمل مقارنة و/أو إشارة إليه... فقد أطلقنا عليه مصطلح «الآلية»  The Modus Operandi.
هذه «الألية «ستقر/تحدد مسبقا (من قبل البنك المركزي اليمني ) متوسط سعر صرف للريال مقابل الدولار الأمريكي أعلى/اقوى من السائد/المتداول في السوق (السوداء) وذلك فيما يخص طلبات استيراد الـ 5 سلع غذائية أساسية وهي التالية:
القمح والأرز والسكر وزيوت الطبخ وحليب الاطفال.

وسيطبق سعر صرف الريال (هذا المدعوم) مقابل الدولار الأمريكي على تجار الـ5 سلع مما سيمكنهم من فتح اعتمادات وارداتهم المستندية بتكلفة وبمبالغ إجمالية بالريالات اليمنية اقل مقارنة/فيما لو قاموا بتأمين مبالغ من الدولارات من السوق السوداء، بمعنى أوضح اشتروا (تحصلوا) على الدولار بأقل من سعر صرف السوق السوداء. وعليه، هذا «الدعم» لابد أن يتحول إلى «انخفاض» في تكلفة هذه السلع على التجار (لأن الدولار سيحسب لهم بأقل من سعر صرف السوق السوداء). هذا الوضع المميز من هبوط نسبي في تكلفة السلع الأساسية المستوردة لابد ان تترجم تلقائيا الى مستوى اسعار «منخفضة/ارخص» يدفعها المواطن/ المستهلك مقارنة بالتي كان يشتري بها (الـ 5 السلع) قبل تطبيق «الآلية» أو الاسعار القديمة.

وتم الإعلان عن إطلاق هذه «الألية- The Modus Operandi» من خلال تعميم ارسله البنك المركزي اليمني (11 يونيو 2018م) الى البنوك العاملة... نقتبس منه:
«...فإن البنك سيضمن للتجار توفير النقد الأجنبي للاستيراد (باستخدام الوديعة)، بدلا من شراء التجار النقد الأجنبي من السوق السوداء والتي يصل فيها سعر الصرف إلى 485 ريالا». وأضاف (أي التعميم) أن تلك الخطوة «ستعمل على تراجع سعر الدولار أمام الريال اليمني وانه من المرجح (ركزوا على كلمة  المرجح (Probable) أن يعود سعر الصرف إلى 400 ريال، بما ينعكس على انخفاض في أسعار المواد الأساسية. وأشار (التعميم) إلى أن البنك سيعيد ضبط سعر الصرف والمحدد في السوق الرسمي بـ380 ريالا للدولار الواحد...». (انتهى الاقتباس).

البنك المركزي «يرجح» ولا يؤكد وصول سعر الصرف إلى 400 ريال/دولار... السؤال: لماذا إذاً تضعون رقما محددا (400 ريال)؟. كان بإمكان البنك المركزي «ترجيح» تحسن سعر الصرف في الاتجاه الإيجابي/الطلوعي... قوى السوق هي الوحيدة التي تحدد اتجاهات سعر صرف الريال مقابل الدولار طلوعا أو نزولا (أساسا العرض والطلب).

أما في حالة «الآلية» فقد حدد البنك المركزي اليمني سعر الصرف للريال «مسبقا» بـ 400 ريال/دولار، «وهذا يعتبر أهم متطلب لوقود إطلاق وتفعيل أهداف «الآلية»، بحيث يكون سعر الصرف هذا والمخصص حصريا  لاستيراد السلع الغذائية الـ 5 الأساسية ضد (في وجه) سعر الصرف 485 ريال/دولار والذي يتم حاليا التداول فيه في السوق السوداء. بمعنى أن سعر صرف الريال اليمني مقابل الدولار الأمريكي سيتحسن/يرتفع بنحو 17.5 في المئة.

وهذه العملية ممكنة وسهلة وذلك بخصم «فارق 85 ريال [485-400] لكل دولار يتم قيده لأي اعتماد استيراد مستندي من حساب الوديعة (عملية محاسبية بحتة، قيد وخصم ( Debit & Credit).
ومن خلال الشروع فعليا وجديا في عمليات الخصم (بإعطاء سعر صرف للريال أقوى مقارنة بالمتداول) سوف تجذب التجار المستوردين لهذه السلع الأساسية والذين سوف يبدأون بتقليص الاعتماد على و/أو بالعزوف التدريجي عن التعامل مع السوق السوداء لشراء الدولار. وفي ظل هذا السيناريو وخلال فترات زمنية متفاوتة يفترض «انخفاض» الطلب على الدولار بالمقدار الذي يأمنه التجار من الألية. وبالتالي توفره (عرضه)، في السوق السوداء بكميات أكبر، نسبيا، مقارنة بالوضع قبل تفعيل «الآلية» والتي وعلى ضوئها وبسببها سينكمش «الطلب» عليه (الدولار). هذا الوضع سيؤدي إلى الضغط على سعر صرفه «نزولا» لصالح سعر الريال - (نسميها باللغة الدارجة «بوار»)... (العرض يفوق الطلب)..
إذاًً، هدف (إنتاج وتقديم وتفعيل) «آلية» البنك المركزي اليمني له شقان اثنان أساسيان مرتبطان مع بعضهما البعض ارتباطا وثيقا، فشل أحدهما يفشل الآخر.

هذان الشقان لـ «الآلية» هما الآتي:
1 - دعم سعر صرف الريال مقابل الدولار (وذلك بالتدخل وتحييد قوى السوق) فيما يخص السلع الغذائية الأساسية المذكورة أعلاه، وعلى أن ينعكس هذا إيجابا في تخفيض/هبوط /نزول أسعارها للمواطنين مقارنة بالفترات السابقة قبل تفعيل «الألية».
2 - تأسيس وإيجاد وسيلة/منفذ آخر (غير السوق السوداء) لتجار السلع الغذائية الأساسية لتأمين اقتناء  مشترواتهم من الدولار الأمريكي، لدفع قيم فواتير وارداتهم من هذه السلع... ولكن بسعر أقل (مدعوم) من المتداول في السوق السوداء. وكلما زادت وتيرة وزخم استخدام وتطبيق هذه «الآلية» (عزوف/هجرة تجار السلع الـ5 عن شراء الدولار من السوق السوداء) سيقابله (نظريا) انخفاض في الطلب على الدولار الأمريكي في السوق السوداء مما سيؤدي (نظريا) إلى تحسن (ارتفاع ) سعر صرف الريال اليمني أمام الدولار الأمريكي.

هذا سيناريو أساساته افتراضات واحتمالات، وليس واقعا.. ولم يجرب أو يطبق من قبل في أي مكان وزمان.. ربما سيحصل وربما لا..
ولكن أن تقوم أكبر مؤسسة مالية في البلاد «بالتحديد المسبق لما ستكون عليه سعر صرف مستقبلي سائدا في السوق (من 485 ريال إلى 400 ريال لكل دولار أمريكي) فإنه تصرف غير حصيف وغير حكيم.

بل إن البنك المركزي اليمني اندفع وتنبأ بأعمق من ذلك، وتوقع مسبقا بإعادة ضبط سعر الصرف والمحدد في السوق الرسمي بـ 380 ريالا للدولار الواحد، (هذا اقتباس من تعميم البنك المركزي اليمني الصادر في 11 يونيو 2018م). هذا مع العلم بأنه في أغسطس 2016م تم «إلغاء» ما كان يسمى بـ «السعر الرسمي للدولار»، حين صدر قرار من البنك المركزي اليمني بتعويم الريال اليمني... أي أن يتحدد سعره بناء على قوى السوق، وهو الواقع والحاصل من حينه وفي الوقت الراهن.​