دحبـــاشي

> د. مروان هائل عبدالمولى

>
في الوقت الذي تسطر فيه المقاومة الجنوبية أروع ملاحم البطولة والعزة والشرف في جبهات الساحل الغربي وصعدة ومكيراس والشريجة، نجد هنا في عدن بعض الناس من لصوص الانتصارات تجلس في دواوين فخمة ورائحة العود الفاخر تتطاير من ملابسها والقات الغالي أمامها، ناس ليس لديها شغل ولا مشغلة سوى حذف فلان وتعين فلان على أسس مناطقية ومحسوبية والبسط على أراضي الناس والدولة والتنظير والفلسفة وتوزيع صكوك الوطنية والانتماء والأصول، ناس كلما حشت عود قات في الخد تزيد عندها أشكال الهلوسة وتتنوع نظرياتها وصكوكها الباهتة، هؤلاء الجهلة البعض منهم كان يحلم بشراء كأسة شاي واليوم يسوقون سيارات صالون مكيفة مع حراسة ومرافقين، وللأسف البعض من هؤلاء هم من يعبث بشرف وأمانة المقاومة الجنوبية وبأخلاق أبناء الجنوب كافة، هؤلاء هم من يحاول تفكيك تماسك النسيج الاجتماعي الجنوبي وهذه الأشكال من الناس هي سبب نكسات الجنوب على مر التاريخ، لأن سلاحهم الفتن والتمييز العنصري والمناطقي، لدرجة أن البعض منهم تراه وكأنه نسخ مكررة لمن كان بالأمس يستخدم مصطلحات اليسار واليمين الانتهازي والطغمة والزمرة بدوي وجبلي وبعد 22 مايو أضافوا كلمة دحباشي.

اليوم هناك جماعات تعزف على هذه النغمات الخطيرة وتحاول جر البلاد والعباد إلى مربعات الأزمات الداخلية الخطيرة، فالملاحظ في الآونة الأخيرة أن النشاط الهدام لهذه الجماعات قد زاد وأصبح أكثر تنظيما وذكاء وخبثا على الساحة الجنوبية وبقوة، حيث كثفت من حدة التعليقات والانتقادات والممارسات العنصرية والمناطقية في الواقع والصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، والهدف هو زرع الانقسامات وتفتيت اللحمة الداخلية الجنوبية وجعلها مشغولة بالترهات بعيدة عن القضية المصيرية، هذه الجماعات أصبحت توزع صكوك الخيانة عليها ختم مكتوب فيه دحباشي، مع أنني لا أرى في هذه الكلمة أي إهانة لأي شخص، لأنها وببساطة اسم مسلسل كوميدي تمحور حول شخصية اسمها دحباش، التي أدى دورها الممثل آدم سيف وعكس الصورة النمطية لحياة شخص عادي فوضوي في الشمال، مسلسل مثله مثل مسلسل بشبوش وأبو الريش للفنان الكبير أبوبكر القيسي وشعشبونة ورعشة بن مرعوش، ولكن هناك من يحاول بطريقة لئيمة الخروج عن الصفة الدرامية للمسلسل، وتحويله إلى دراما يومية يتميز فيها الجنوبيون بالعنصرية وبالذات أبناء عدن المسالمين ضد أبناء الشمال وإلصاق تهمة السقوط الإنساني والأخلاقي على الثقافة الجنوبية، وهؤلاء الخبثاء يعرفون تمام المعرفة أن أبناء الشمال المتواجدين حاليا في الجنوب أغلبهم يعيشون ويعملون دون مشاكل أو تميز ويمارسون حياتهم وتجارتهم بشكل طبيعي، ولكنهم مكسورو النفس والخاطر، بسبب الحرب الدائرة في مدنهم وقراهم، أما الهوامير السوداء منهم فتجدهم لازالوا يستوردون ويصدرون البضائع بشكل اعتيادي، منهم النظيف ومنهم من هو على ارتباط ببعض القيادات الجنوبية المنبطحة، التي تعمل كطابور خامس تابع لها، يعملون ليل نهار على التخطيط لإثارة النعرات المناطقية والطائفية ويشرفون على عمليات التخريب للبنى التحتية والعبث بالأمن وبمشاعر الناس وخاصة البسطاء وتأليبهم على بعضهم البعض.

استطاع عفاش ونخبته القبلية والعسكرية من اجتياح الجنوب في حرب 1994 وارتكبوا فيه أبشع الجرائم والمجازر، وأعادوا الجنوب إلى القرون الوسطى بعد كان منارة علمية وثقافية، قهر الجنوبيين من هذا التخلف والدمار الشمالي جعلهم يبحثون عن رد يسكن الآلالم النفسية في أعماقهم والتفوا واتفقوا جميعهم حول تسمية "دحباش" لأي شخص قادم من الشمال، كون شخصية دحباش في المسلسل الشمالي كانت ترمز لحالة التخلف والفوضى والمهازل الجارية هناك، وكذلك في المجتمع الجنوبي لم تتعدَّ تسمية ومعنى دحباش سوى رمزية التخلف والفوضى بعيدا عن الكراهية المناطقية، إلا أن عفاش بمساعدة أمنه القومي والسياسي، استفاد من مصطلح دحباش وحوله إلى معنى إهانة وعداوة وتحقير من الجنوبيين للشماليين من أجل بقاء نظامه على حساب سياسة فرق تسد بين المواطنين.

إن تحويل مصطلح دحباش من قالبه الفني الكوميدي إلى مصطلح يراد به الإهانة للشماليين في اعتقادي هذا لا يدل إلا على نفسية مريضة لمن يفكر في ذلك، لأن الإهانة ليست من قيمنا في الجنوب المتعدد الأعراق والثقافات، وليست جزءا من تراثنا وتقاليدنا ولا توجد لدينا مفاهيم الزنابيل والقناديل سادة وأتباع شيوخ ورعية، فنحن شعب لا نقبل بالإهانة ولا نرضاها لغيرنا، لأن الإهانة هي التحطيم والإذلال المتعمد لشرف وكرامة الشخص، وهو ما لا يمكن أن يكون حاضرا في الثقافة الجنوبية المدنية، إلا في الاستثناءات النادرة جدا المتعمدة المدروسة والمنظمة، التي تحمل بصمات من خارج الساحة الوطنية والثقافية الجنوبية.

إذا كانت كلمة دحباشي تعني إنسان الفوضى والفساد العام، فهذا يعني أننا أمام تسمية ظاهرة حاضرة في كل دول العالم والجنوب بدون استثناء، ولدينا هذا من النوع من البشر ويمكن أن نطلق عليهم دحابشة جنوبيين وبحاجة إلى إعادة تأهيل، وهم على شكل السارق المبهرر والنصاب والأحمق واللص والمرتزق والمتسلق وفيلسوف قات ومثير العنصرية وصاحب السوابق والمحبب والمحشش وعتاولة نهب وفساد وواسطة ومحسوبية وبلطجة، فهذه الصفات السيئة مشتركة بين الناس جميعا ولا يمكن فصلها عن فئة وإلصاقها بفئة أخرى حسب المزاج، فالجنوبي الذي قبل الوحدة ليس كالجنوبي اليوم، وصفات دحباش القرن العشرين ليس كدحباش القرن الواحد والعشرين والأحداث والناس تتغير، لقد تغير شكل الدولة وأصبحت غير واضحة المعالم والمجال والاختيارات لازالت مفتوحة حتى الآن، وحتى عفاش تم تصفيته في وقت لم يتوقعه هو بنفسه وقبره مجهول، والحوثي الجاهل أبو الكهف خرج من مغارته وأصبح سيدا بعد أن كان خائفا مختبئا، والجنرال صاحب الدروع هرب كزوجة سفير، والزنداني فتح مقهى للشيشة في اسطنبول، وتوكل كرمان صاحبة جائزة نوبل تمارس السمسرة السياسية، وعدن بدون محافظ، وبين كل هذه الأوجاع والقصص المؤلمة هناك شيء جميل يلمع اسمه المقاومة الجنوبية ترفع الرأس وتقود عملية تحرير الإنسان والأرض في الشمال بكل شرف وشجاعة، ولا تسمع بين رجالها أي مصطلح تحقير أو إهانة لأي حد، ليأتيك بعدها واحد قفز بعد انتهاء الحرب في الجنوب من البيت إلى الكرسي ليقول لك أنت دحباشي ويقصد بها إهانتك أو تحقيرك وهو أصلا لا يعرف شيئا عن مصدر واصل الكلمة ولا عن ماضيه ولا حاضره والجهل يغطيه من رأسه حتى أسفل قدميه. وعجبي!​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى