قصة قصيرة.. مـرآة الأصـم

> ريـم وليـد

>
لأن العيش سباحة في الألم ثم السعي نجاة من الغرق فيه يشبه محاولة اعتمادك على أطراف أصابع رجليك كي تستمر في التنفس.. اعتدت أن أراوغ مساحة وقتي الفارغة بلهيها بالطبيعة التي أراها كما أحب أن تكون عليه فأنجو من الغرق و أنفذ من مصافحة الملل أيضًا، وكان أول ما رأيته في موقِف درج البنك وفق عادتي هذه هم أولئك الشحاتون الصغار بملابس المدرسة وحقائب الكتب وكانت السيدة التي تبيع قطع السمسم المطحون بالسكر سعيدة وهي تعد النقود وتستعد للعودة إلى منزلها باكرًا، كما لم يكن الشارع متسخًا بكراتين الباعة والنفايات وصبغة «التنبل» المبصوقة في كل بقعة.. كل شيء كان مثلما أوده إلى أن استدار السائق إلى المحصل حين ربت على كتفه ليشغل الباص ويتحرك بعد أن اكتمل عددنا، لحظتها ظننت أنه سيقوم بتعديل المرآة الداخلية المنعكسة نحو الأعلى إذ كانت أول مالفت انتباهي حين قعدت لكنه لم يفعل حتى عندما اقتربنا من نقطة المقاومة القريبة من محكمة صيرة في كريتر، كما أن الركاب لم ينتبهوا لذلك.. عندها أسررت في نفسي «ربما لا يُعتمد عليها بقدر المرآتين الجانبيتين» .

كان عددنا أربعة عشر.. السائق والحصّال واثني عشر راكابا.. منهم رجل عجوز يضع بجانبه مجرفة بناء، ورجلان في الأربعين من عمرهما وآخر بجانب زوجته النائم بين ذراعيها رضيعها، وشابان وثلاث فتيات وكنت الرابعة.
بدأت أصوات الهموم تتعالى ابتداء من العجوز حين عقد ذراعيه ووضع جل ثقل رأسه على رأس الكرسي المقابل له، وبينما كان الحصّال يجمع منّا المال قال له أحد الشبان (مئتان وخمسون لازم ..الحل أن تنزِلَني في خورمكسر لأعطيك مئتين ثم سأكمل مشيًا إلى المنصورة)..

تبعه رجل ذو شعر أبيض.. قائلًا: لا تزعل منه.. ازعل من الحكومة يا بُني.
قال الشاب وهو يمد المئتين وخمسين: فينها الحكومة يا عم عشان تشوفنا وأنا زعلان منها.

كان من المتوقع أن يضحك الجميع مما قالهُ، لكن شر البلية في عدن لم يعد يضحك.. وعندما استمرا في تبادل أحاديث السياسة المملة ورد اتصال للفتاة التي تقعد بجانبي.. بدا عليها التوتر وهي تحرك محبسها بإبهامها، قالت ببحة بكاء (وما ذنبي أنا إن رفض والدي مبلغ المهر هذا.. ست مئة ألف لن تكفي بحميم الغلاء هذا.. أشعر بأنني قنبلة موقوتة ستنفجر في أي لحظة.. أنا أيضًا مضغوطة كما هو حالك.. لا حل لنا إلا الصبر، فلا بأس إن تأخر زواجنا).

أثقلت المكالمة كاهلي وكاهل الفتاة التي تقعد معنا على الكرسي ذاته، و كذا شاب أسمر يرتدي زي المقاومة، قاعد بجانب الرجل العجوز على الكرسي الذي يسبقنا، وعرفت ذلك حين تنهدا في وقتٍ واحد.. كانت تنهيدتهما تصريحا مطلقا بجبروت الهم، فمؤشر الحياة إلى الأسفل ضيّق الخناق وربطنا جميعًا في حبله السري العاجز وما عادت تغذيتنا السليمة إلا أمنية إجبارية لابد من صنعها.. حقًا لم تعد الحياة في عدن بحاجة لمزيد من التغيرات المؤرقة حتى يتضح كم أهلها شعب صبور.

في منتصف خط الجسر كان الباص على وشك الانطفاء فأركنه السائق وارتجل منه ليتفقده، لوهلة شعرت أن الهمَّ كسمك الهامور لا يترك أحد أمامه إلا ويلتهمه. استرخيت في جلستي وحدقت نحو البحر.. رأيت زوجي الأعرج لإصابة في رجله يتقدم نحوي بشكلٍ طبيعي وشتلة أزهار مغروسة في فوهة بندقيته.. فتح النافذة وهمس لي: من الآن وصاعدًا عليك ألا تقلقي يا حبيبتي، لن نظل والأعداء إخوة في السلاح، فلقد قطعنا عهدًا بأن نترامى بالأزهار وقذائق الحب ونقصف بعضنا بالسلام. ثم طبع قبلة محارب على جبيني، وبينما تحرك الباص وبدأ هو يبتعد من أمام عينيّ، صاح الشاب الأسمر: هل لك أن تُسرع.. أنا ذاهب إلى الجبهة.. أريد أن ألحق «الطقم». لحظتها تمنيت لو أنني لا أُوقَظَ من خيالي البتة وأحسست أن السلام ينافس أهل الكهف في نومتهم الشاذة تلك.

صحيح أنني أصاب بالخيبة حين أفيق على واقعنا الأسود لكن خيالي الخاص الذي أذهب إليه لأخلق السعادة في نظير مالم أحب رؤيته يبعث فيّ الأمل وأُرضي به حزني.. الله لو أن شذوذي عن الواقع كان هو حقيقته!
عند وصولنا جولة كالتكس بكى الرضيع من أثر أصوات السير والازدحام هناك، طرقت النافذة ليوقِف السائق.. لم يسمعني . طرقت مرة أخرى وصاح بعض الركاب (هييييه معك نازل).. ربت الحصّال على كتفهِ فأوقف باصه، وبينما كنت أحاول الارتجال من مقعدي في الخلف قال لي الحصال: العفو منك يا كريمة فهو أصم.

قلت: لا بأس.. وأشرت له إلى المرآة الداخلية مردفة: قم بتعديل المرآة له.  لكنه لم ينبس بكلمة وهو متعلق بباب الباص، فمكثت متعجبة، أنظر إليه والباص يتحرك حتى استطعت قراءة مقولة في مؤخرة زجاجه (شوفة همومكم تذكرنا بللي ضاع * أرفعوها لله حتى تتحسن الأوضاع).​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى