المصير المجهول

> نورا مجمَّل

> في قرية صغيرة تقطن أُسرة فقيرة مكونة من أب وأم وأربعة أبناء.. منزل صغير يجمعهم ومع ضنك المعيشة وصعوبة الحياة إلاَّ أنَّ السعادة كانت تغمرهم والحب يملأ قلوبهم تلك المشاعر التي تفتقدها الكثير من أُسر الأغنياء وفي أحد الأيام ازدحم ذلك البيت الصغير بالناس لم يعرف ما السبب؟
يقول محمد كنت عائداً من المدرسة وإذا بأصوات الجيران تتعالى من منزلنا انتابني شعور غريب فدخلت بقدميَّ الصغيرتين وأنا أرتجف خوفاً حينها رأيت أمي وهي تبكي عند رأس أبي الذي قد غُطِّي وجهه لم أستوعب ما الذي يحدث؟لكني أدركت أنه الموت الذي سمعت عنه ولم أعرف معناه إلَّا عندما رأيت أبي في تلك الحالة.. لقد كان أبي مصاب بمرض السرطان الذي أنهك قواه ولأننا أُسرة فقيرة لم نستطع دفع تكاليف العلاج فمات على إثره..

رحل والدي وتركنا اطفالاً صغارا كنت أنا الابن الأكبر ولم يتجاوز عمري العاشرة كانت أمي في ريعان شبابها، صحيح أنني مازلت طفلاً لكنني خفت أن تتركنا كما تركنا أبي، لأني سمعت جدي يحدثها بأمر الزواج من شخص آخر، لكن أمي كان رأيها عكس ذلك، فقد لاحظت عليَّ ملامح الخوف وجلست ذات يوم بجواري وحدثتني طويلاً عن رجل واحد سكن قلبها، وكانت الدموع تنهمر من عينيها وضمتني إلى صدرها وهمست بصوت شاحب في أُذني قائلة: لن أترككم أبداً حتى آخر يوم في حياتي يا محمد، فلم أتمالك نفسي اختلطت دموع الحزن بدموع الفرح حزناً لرحيل والدي وفرحاً لأن ذلك الكابوس قد ولَّى بلا رجعة.

ومرَّت الأيام والسنوات وأنا أكبر شيئاً فشيئاً، كانت أمي بالنسبة لنا هي الأم والأب في الوقت نفسه، كنا أسرة فقيرة لا نملك سوى أرض زراعية صغيرة تركها لنا والدي ومجموعة من الأغنام التي كنت أذهب لرعيها بعد أن أعود من المدرسة، لم يثنني رعي الأغنام عن دراستي فقد كنت من أوائل الطلاب في مدرستي وكان سر نجاحي هو أمي.. كانت تشجعني دائماً على التعليم، وكانت تتحمل عبئ تربيتنا إضافة إلى حرث الأرض لتوفير قوت يومنا وأنا كنت أُساعدها في ذلك وكان حلمها الأكبر أن ألتحق بكلية الطب وأصبح دكتورا أُساعد الناس الفقراء أمثالنا.

تخرجت من الثانوية بمعدل عال ولم يتبقَ لي سوى خطوة واحدة لأُحقق حلم أمي، وهو امتحان القبول الذي أعددت له ليلاً نهاراً وأمي تساندني في ذلك فتحملت عبئاً كبيراً لتوفر لي الوقت والمال.

حان موعد الامتحان.. ودعتني أمي بدعوات ملأت قلبي ثقة قبل رحيلي، وصلت إلى ذلك المكان وكأنني أحلم، لم أصدق أنني قد وضعت قدمي على أولى خطوات حلمي دخلت الامتحان مستعيناً باللَّه وأنا واثق بنفسي تذكرت دعوات أمي فزادتني ثقة وعزيمة... عدت إلى القرية ثانية أنتظر خبر نجاحي بفارق الصبر وبعد إسبوعين اتصل بي أحد زملائي لينقل إليَّ الخبر، ولكنه عكس ما توقعت.. وكانت الصدمة الكبيرة لم يستطع عقلي أن يتحملها انهارت قواي، لم أُصدق ما سمعت لم تذرف عيناي دمعة فقد علقت العبرات في حنجرتي التزمت الصمت حتى صوت أمي لم أعد أسمعه وهي تسألني ما الذي حدث؟ لكنها أدركت السبب فعرفت أنني قد رسبت في امتحان القبول التفت إليَّ بنظرات حادة يملأها الحزن، ارتميت بين أحضانها شعرت حينها وكأنني ابن العاشرة، وبكيت بمرارة، لكنها هدأت روعي ببضع كلمات كانت كالبلسم الذي يوضع على الجرح، لم تزدني كلماتها إلَّا إصراراً وعزيمة فقد قررت أن أُحاول مرة ثانية في العام القادم، ومرت الأيام والشهور سريعاً وامتحنت للمرة الثانية ولكنني للأسف لم أُوفق رغم ثقتي من إجاباتي على الأسئلة بأنها جميعاً صحيحة، بعدها أدركت أنه لا مكان لي في هذه الكلية، وهذه كانت نصيحة أمي لي بأن ألتحق بكلية أُخرى لعلَّي أجد ضالتي فيها، بدل أن تضيع سنين عمري وأنا أجري وراء سراب.. وحقاً التحقت بإحدى كليات التربية، وحزمت أمتعتي للرحيل، ودعت بيتنا الصغير وقريتنا الجميلة الهادئة، وتركت خلفي أمي وإخوتي لأنتقل إلى صخب المدينة باحثاً عن مستقبل مشرق، لم أنس أمي وإخوتي للحظة فقد كنت أعمل بعد انتهاء الدوام الجامعي وأُوفر مصروف دراستي وما تبقَّى أرسله لهم.

رغم هذه الظروف القاسية لكنني كنت الأول على دفعتي بفضل اللَّه ثم دعوات أمي التي رافقتني طوال سنين دراستي.. ومرَّت السنوات وهأنا في آخر عام جامعي وحلمي الأكبر أن أصبح معيداً في الكلية وأحظى بمنحة دراسية كي أستطيع مواصلة مشواري العلمي وأحصل على شهادة الدكتوراه.. فإن لم يقدر لي أن أصبح دكتوراً في مجال الطب، فربما كان من نصيبي أن أصبح دكتوراً في تخصص آخر.. وتعلقت بهذه القشة لأخرج من بحر اليأس الذي أصابني عندما لم أستطع الالتحاق بكلية الطب.
وقبل الامتحانات النهائية جاءني اتصال من القرية إنه صوت أختي ولكن صوتها كان شاحب ونبراتها حزينة كادت أن توقعني أرضاً... صرخت بأعلى صوت ما الذي حدث قالت: أخي إنَّ أمي تحتضر... أُغمي علي لم أتحمل الخبر فتحت عيناي وأصدقائي بجواري، وقال لي أحدهم: إن أمك قد سقطت من إحدى أعالي الجبال عند عودتها من رعي الأغنام، وهي الآن في حالة خطرة.. ذهبت مسرعاً إلى المستشفى الذي أُسعفت إليه لكنها كانت في غرفة العناية المركزة وهي في حالة غيبوبة، وقتها خرج الطبيب من تلك الغرفة قادماً إليَّ ووضع يده عليَّ وقال: أمك في حالة موت سريري، ولا فائدة من مكثوها أكثر سوى إهدار الأموال، وأنتم لا طاقة لكم على تحمل هذه التكاليف... صرخت في وجهه قائلاً: حياة أمي غالية وكنوز الدنيا بأكملها لا تساويها.
دخلت لأراها بخطى ثقيلة ورجلاي ترتجفان خوفاً وعيناي تملأهما الدموع وقلب منكسر، وما أن رأيتها حتى أجهشت بالبكاء وارتميت فوقها أتحسس يديها الباردتين، ووجهها الشاحب وعينيها المغرورتين وكأنها جثة هامدة... مكثت بجوارها ثلاث ليال متوالية لكن لا فائدة، وزادت التكاليف وعبئ العلاج أثقل كاهلي فلم يعد بمقدوري أن أدفع المال لبقاءِ أمي في تلك الغرفة يا لها من حياة قاسية، وأي موقف صعب وضعت فيه، هل أقتل أمي بيدي؟! ماذا أصنع يا إلهي؟! لكن أمي هي من اتخذت القرار عنِّي أحسَّت بما أُعانيه فاختصرت الطريق، وقطعت حبل أفكاري، ولفظت أنفاسها الأخيرة لتوديعي في تلك الليلة الظلماء الحزينة التي كساها الحزن والدموع والآهات حزناً لرحيل غاليتي، وفي الصباح الباكر أخذت جثمان أمي لتدفن في مسقط رأسها وعدت بها إلى القرية حيث ودعتها الوداع الأخير... ورجعت إلى المنزل وأنا أراها في كل زواية فيه، إخوتي أصبحوا مسؤوليتي من بعدها وكنت أتمالك نفسي لأجلهم وقد أصبحت الأب والأم والأخ بالنسبة لهم، أي عبء هذا تركتيه لي يا أمي؟، لماذا لم تفِ بوعودك لي؟ لقد وعدتيني أن تحضري حفل تخرجي وأنا كنت أنتظر تلك اللحظة بفارق الصبر كي أحكي للجميع عنك... لماذا يا أمي رحلت باكراً؟ أما وعدتيني أن تخطبي لي بنفسك وأنك سوف تختارين لي أجمل الفتيات... أما قلت لي أنك ستسمي أول طفل لي بنفسك؟.. لماذا يا أمي؟.. لماذا نكثت وعودك؟
كانت ليلة طويلة يملؤها الحزن، وصوت بكاء إخوتي لا يغادر أُذني وأنين قلبي الذي كاد أن يقتلني.

نام الجميع ولم يبقَ أحد سواي، أحسست المكان يضيق بي وكأن السماء مطبقة على صدري حتى كدت أنفجر، فانفجرت بالبكاء بعد يوم طويل من الصمت بكيت وبكيت، وما زلت على تلك الحالة حتى غفوت قليلاً وإذا بأشعة الشمس تلامس خدي ظننت أنها أمي لأنها كانت بدفء الشمس عندما توقظني في الصباح فزعت من نومي وإذا بها أشعة الشمس التي ذكرتني بأمي فصحوت على حقيقة مرَّة وهي أنني قد ودعت أمي إلى الأبد.

ومرَّت الأيام وأنا على هذه الحالة حتى جاءني اتصال من أحد زملائي يخبرني بأن الامتحانات النهائية قد بدأت وأنه قد فاتني امتحان واحد، لم آبه لكلامه حينها فلا شيء عندي أكبر من خسارة أمي، ونمت تلك الليلة وجاءتني أمي في المنام لتخبرني بأنها سعيدة وفي أحسن حال ورأيت النور يشع من وجهها وكأنها القمر ليلة اكتماله، وطلبت مني أن أذهب لأكمل مشواري العلمي.

صحوت في الصباح الباكر وحزمت أمتعتي وما زال جرحي طرياً لم يندمل بعد وتركت أخوتي عند أحد عمومتي.. وصلت إلى الكلية وأكملت بقية الامتحانات واجتزتها بنجاح.
وعلمت بعد عدة أيام أن أحد أبناء المسؤولين قد تحصَّل على المرتبة الأولى وأصبح هو المعيد بدلاً مني وسرق حلمي مني.

أدركت حينها أن الحياة قاسية على الفقراء أمثالنا، وضحكت كثيراً حزناً وألماً لا فرحاً فقد تشابهت المواقف، فمن منعني من دخول كلية الطب هو نفسه الذي كسر حلمي وحطم آمالي في أن أكون معيد في كليتي.

كانت مسؤوليتي كبيرة فقد صرت أباً عائلاً لإخواني وما زلت شاباً، وعمي لم تتوقف طلباته بأن أرسل مصروفاً لإخوتي وصار يلح عليَّ أن أجد عملاً في أسرع وقت، لم يكن لدي خيار سوى أن أذهب للتسجيل في أحد الدوائر العسكرية لألتحق في صفوف الجيش، فقد خسرت كل شيء وأعلم أنني الآن ذاهب في طريق الموت، فآثرت أن أموت شهيداً على أن أموت جوعاً، وفعلاً تم توظيفي وأخذت السلاح بدلاً من أن آخذ القلم.

فرح إخوتي لسماعهم بأمر توظيفي لأنهم كانوا بحاجه ماسَّة للمال، وعدت إلى القرية في إجازة لزيارة أهلي، تلك القرية التي فارقتها منذ رحيل أمي، عادت تلك الذكريات في مخيلتي من جديد، لكن فرحتي برؤية إخوتي أنستني أحزاني، ورأيت في أعينهم اللَّهفة والشوق واشتممت فيهم رائحة أمي، تلك الرائحة العطرة التي لن أنساها طوال حياتي.

مكثت عندهم أياما قليلة وإذا بالقائد يتصل بي ليخبرني بأننا هذه المرة سوف نستلم رواتبنا.
فرح إخوتي بسماع الخبر، وكل واحد منهم بدأ يكتب متطلباته، أخي الصغير ملأ القائمة بأنواع الألعاب التي طالما حلم بها، وأختي التي تكبره ببضع أعوام كان طلبها الوحيد فستان أحمر كي تتباهى به أمام قريناتها، وأنا أنظر لبراءتهم وأهز رأسي موافقاً على كل طلباتهم، ورأيت في أعينهم السرور والبهجة وذلك ما أسعدني وخفف بعضاً من أحزاني.

نمت تلك الليلة وأنا في قمَّة السعادة بعدما رأيتها في عيون إخوتي.. وبينما أنا نائم جاءتني أمي في المنام لكنها هذه المرة لم تكن لوحدها بل كان معها والدي وكانا يمسكان بأيدي بعضهما ويبدو عليهما الفرح والسرور والمكان الذي هما فيه يكسوه الخضرة وصوت العصافير الجميلة وهي تغرد فوق الأشجار.

ابتسمت أمي وشع النور من ثغرها الوردي، وقالت لي: يا محمد لم أنكث بوعودي وها هي عروسك تتجهز لوصولك، فظهرت من خلفها فتاة كأنها القمر عينه لشدة النور الساطع منها لم أستطع أن أرى ملامح وجهها.
ثم مشت بضع خطوات إلي واقتربت منِّي وهمست في أُذني قائلة: نحن بانتظارك لا تتأخر علينا وموعد زفافك سيكون غداً.

صحوت فزعاً من نومي وعيناي مليئة بالدموع لكن قلبي قد مُلئ فرحاً لرؤيتي والدي، أما حديث أمي وتلك الفتاة كان هو اللغز الذي لم أستطع تفسيره.

حزمت أمتعتي وفي لحظة حزن وفرح كنت أشعر أن مصيراً مجهولاً ينتظرني.. وصلت إلى مقر عملي ثم ذهبنا أنا وزملائي صوب المكان والزمان اللذين حُددا لنا، وفي الطريق كل واحد منا كان يخطط ما الذي سيصنعه بهذا المبلغ من المال؟ وكانت الفرحة تغمر الجميع، وطوال الطريق وأنا أنظر إلى السماء لم تفارقني صورة والدي لحظة واحدة، ظللت حينها أُتمتم بالاستغفار حتى وصلنا.

نزلت من على متن السيارة بقدمين ثقيلتين وكأنها المرَّة الأخيرة التي سأطأ فيها هذه الأرض.. كان المكان مزدحماً بالكثير من البشر الذين أتوا من كل حدب وصوب لاستلام رواتبهم التي طالما انتظروها علَّها تخفف بعضاً من معاناتهم.
انتظرت دوري متى يحين كي أستلم راتبي وأرحل، ولكن مازال ذاك الشعور يراودني، وكأنه الوداع واللقاء الأخير.

فجأة وبينما نحن على هذا الحال إذ بسيارة مسرعة تقتحم المكان تلاها صوت انفجار هز المكان ولم يعد يرى سوى اللون الأحمر والأسود القاتم وتناثرت الأشلاء وعلت الأصوات والآهات والأنات أرجاء المكان.. رحل محمد وبقيت بعض أوراقة وكتبه وشهاداته في أحد زوايا منزله الصغير وفي رفوف دولابه التي يملؤها الغبار تحكي مأساته لإخوته وستظل شاهدة على الظلم الذي عاناه في حياته.​

> أخبار متعلقة

تعليقات فيسبوك

Back to top button
زر الذهاب إلى الأعلى